موسى وفرعون يتبادلان التحدي
وهكذا كانت إثارة موسى( ع ) لقضية بني إسرائيل في ما طلبه من فرعون من إرسالهم معه ،مدخلاً للدخول في قضية الوحدانية الإلهية .
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} إنه يتساءل عن هذه الكلمة الجديدة على سمعه ،فقد كان يعرف أنّ هناك أكثر من ربٍّ تبعاً لتعدد البلدان ،فهو ربّ مصر ،وهناك ربٌّ آخر لبلد آخر ،أمَّا أن يكون هناك ربٌّ واحدٌ للعالمين جميعاً ،فهذا ما لم يسمع به ولم يخطر له على بال .
وربما كان يحاول أن يشغل الجوّ من حوله بعلامات الاستفهام التي تحوّل المسألة إلى جدل بيزنطيّ يخفف من تأثير موسى عليه ،وذلك بالإِيحاء بأن المسألة التي يثيرها موسى عن رب العالمين من خلال دعواه بأنه رسول من قبله ،من المسائل المثيرة للجدل ،لإِبعاد الوجدان الشعبي العفوي عن الارتباط بها من أقرب طريق ،كما يفعل الكثيرون الذين يعملون على المناقشة في الأمور البديهية ،لتوجيه الأنظار بعيداً عن طبيعة البداهة فيها ،بالإِيحاء بأنها قابلةٌ للأخذ والرد .
مناقشة مع صاحب الميزان
وقد يثير بعض المفسرين المعنى التفسيري الإِيحائي في اتّجاهٍ آخر ،وهذا ما ذكره صاحب تفسير الميزان ،وذلك من خلال الانطلاق من طريقة الوثنيين في تصوّر مسألة الألوهية ،«فهؤلاء يرون أن وجود الأشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده ،هو أجلُّ من أن يحدّه حدٌّ في وجوده ،وأعظم من أن يحيط به فهم أو يناله إدراك ،ولذلك لا يجوز عبادته ،لأن العبادة نوع توجّهٍ إلى المعبود ،والتوجّه إدراك .
ولذلك بعينه ،عدلوا عن عبادته والتقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ،ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية هي مقرّبة إليه ،فانية فيه ،من الملائكة والجنّ والقدّيسين من البشر المتخلصين من ألواث المادّة الفانين في اللاّهوت الباقين بها ،ومنهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية ،وكان من جملتهم فرعون موسى .وبالجملة ،كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم ،بمعنى أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم ،كما في الملائكة ،أو لا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم ،كما في الجن ،فإن كلاًّ من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمرٍ من أمور العالم الكلية ،كالحب والبغض والسلم والحرب والرفاهية وغيرها ،أو صقع من أصقاعه ،كالسماء والأرض والإنسان ونحوها .
فهناك أربابٌ وآلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره ،كإله عالم الأرض ،وإله عالم السماء ،وهؤلاء هم الملائكة والجن وقدّيسو البشر ،وإله عالم الآلهة وهو الله سبحانه ،فهو إله الآلهة وربّ الأرباب .
إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحاً لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين ،نظراً إلى أصولهم ،إذ لو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة الممكنة بأعيانهم ،فهو رب عالم من عوالم الخلقة ،وهو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء وعالم الأرض مثلاً ،ولو أريد الله سبحانه ،فهو رب عالم الأرباب ،وإله عالم الآلهة فقط دون جميع العالمين ،ولو أريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود ،والأرباب الممكنة الوجود ،فلا مصداق له معقولاً .
فقوله:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} سؤال منه عن حقيقة رب العالمين ،بيانه أن فرعون كان وثنياً يعبد الأصنام ،وهو مع ذلك يدعي الألوهية .أمّا عبادته الأصنام فلقوله تعالى:{وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ} [ الأعراف: 127] ،وأمّا دعواه الألوهية ،فللآية المذكورة ولقوله تعالى:{فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى} [ النازعات: 24] .
ولا منافاة عند الوثنية بين كون الشيء إلهاً رباً وبين كونه مربوباً لربٍّ آخر ،لأن الربوبية هي الاستقلال في تدبير شيءٍ من العالم ،وهو لا ينافي الإِمكان والمربوبية لشيءٍ آخر ،وكل ربٍّ عندهم مربوبٌ لآخر ،إلا الله سبحانه ،فهو رب الأرباب لا ربّ فوقه ،وإله الالهة لا إله له .
وكان المُلك عند الوثنية ظهوراً من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة ونفوذ الحكم ،فكان يُعبد الملوك كما يعبد أرباب الأصنام ،وكذلك رؤساء البيوت في بيوتهم ،وكان فرعون وثنياً يعبد الآلهة وهو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة .
فلما سمع من موسى وهارون قولهما:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تعجب منه ،إذ لم يعقل له معنًى محصّلاً ،إذ لو أريد به الواجب وهو الله سبحانه ،فهو عنده ربّ عالم الأرباب دون جميع العالمين ،ولو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة وغيرهم ،فهو أيضاً عنده ربّ عالم من عوالم الخلقة ،دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين .ولذلك قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة ،بما هو موصوف بهذه الصفة ،ولم يسأل عن حقيقة الله سبحانه ،فإنه لوثنيته كان معتقداً بوجوده ،مذعناً له ،وهو يرى كسائر الوثنيين ،أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقته ،كيف ،وهو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الالهة والأرباب كما سمعت »[ 1] .
أمّا تعليقنا على ذلك فهو: إن هذا التحليل طريف ودقيق ،ولكننا لا نستطيع فهمه من جوّ الآية ،فليست القضية عنده هي مفهوم رب العالمين ،أو رب عالم الأرباب ،بل الظاهر أن القضية هي طرح مفهوم الإِله الشامل للكون كله وللعوالم كلها في مواجهة ربوبية فرعون وأمثاله .ولهذا رأيناه يتهدد موسى بأنه سيتعرض للسجن إذا اتخذ إلهاً غيره ،كما رأيناه يتحدث مع هامان في قوله تعالى:{وَقَالَ فَرْعَوْنُ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاََظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [ غافر:3637] ،ما يوحي بأنه ينظر إليه كإله منافسٍ ،فهو يثير مسألته من هذا الجانب استغراباً لوجود إله غيره ،أو لطرح عبادة رب سواه في المنطقة التي يسيطر عليها .