{قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُما إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} فهو الرب المسيطر على الكون كله الذي لا بد من أن يعبده الجميع من موقع عبوديتهم له ،وليس لأحدٍ أن يدّعي الربوبية لنفسه معه .فإذا كان كل واحد يدير منطقته ،فهل يعقل أن لا يوجد هناك من يخلق الكون وما فيه ويديره ؟فهل وجد الكون صدفةً ؟وهل هو ذرّةٌ ضائعة في الفراغ ؟أما قوله:{إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} فقد يكون إشارة إلى ما قد يختزنونه في داخلهم بأن للسماوات والأرض وما بينهما رباً ،ولكنهم غافلون عنه بالاستغراق في آلهة الأرض ،فأراد أن يقول لهم بأن رب العالمين الذي أدعوكم إلى الإيمان به وإلى عبادته من خلال رسالتي التي أحملها إليكم منه ،هو رب السماوات والأرض وما بينهما ،الذي توقنون به ،فكيف توقنون بهذا وتنكرون ذاك ؟!
ويعلِّق السيد الطباطبائي على هذه الآية في تفسير الميزان فيقول: «وقوله{قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} جواب موسى( ع ) عن سؤاله:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهو خبرٌ لمبتدأ محذوف ،ومحصّل المعنى ،على ما يعطيه المطابقة بين السؤال والجواب: هو رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ،التي تدل بوجود التدبير فيها ،وكونه تدبيراً واحداً متصلاً مرتبطاً ،على أن لها مدبراًرباًواحداً على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان والوجدان .
وبتعبير آخر: مرادي بالعالمين السماوات والأرض وما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها رباً مدبراً واحداً ،ومرادي برب العالمين ،ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه ،وهذه دلالة يقينيّة يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان والوجدان .
فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى( ع ) إلا أن يعرّفه ما هذا الذي يسميه ربّ العالمين ؟وما حقيقته ؟لكونه غير معقول عنده ،فلم يسأل إلا التصور ،فما معنى قوله:{إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} ؟واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلاً .
على أنه( ع ) لم يأت في جواب فرعون بشيء ،غير أنه وضع لفظ السماوات والأرض وما بينهما موضع لفظ العالمين ،فكان تفسيراً للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيدٍ وعمرٍو ،فلم يُفد بالآخرة إلا التصور الأوّل ولا تأثير لليقين في ذلك .
قلت: كون فرعون يسأله أن يصوّر له{رَبُّ الْعَالَمِينَ} تصويراً مسلّمٌ ،لا شك فيه ،لكن موسى بدّل القول بوضع{السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} مكان العالمين ،وهو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض ،والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها ،والنظام الجاري عليها ،ثم قيّده بقوله:{إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} ليدلَّ على أن أهل اليقين يصدّقون من ذلك بوجود مدبّر واحدٍ لجميع العالمين .فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين ؟فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين ،إذ يستدلون بارتباط التدبير واتصاله في عوالم السماوات والأرض وما بينهما ،على أن لجميع هذه العوالم مدبراً واحداً ،وربّاً لا شريك له في ربوبيته لها ،وإذ كانوا يصدّقون بوجود ربٍّ واحدٍ للعالمين ،فهم يتصورونه بوجهٍ تصوراً ،إذ لا معنى للتصديق بلا تصور » .
ولكن هذا الذي ذكره المفسر الجليل لا يوحي به اللفظ{إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} لأن المسألة المطروحة ليست الاستدلال على أن للسماوات والأرض وما بينهما ربّاً من موقع طبيعة الموضوع ،بل المطروح فيما بينهم هو تطبيق فكرةٍ مخزونةٍ في داخل عقولهم على الفكرة التي يطرحها عليهم لإِخراجهم من الاستغراب بتذكيرهم بما يؤمنون به ،وإخراجهم من أجواء الغفلة عنه من دون الدخول في جدلٍ حوله ،بإثارة علاقة الحاجة إلى المدبر بالإيمان به ،والله العالم .