{قَالَ أَفَرَأيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الاَْقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} من الموقع العقيدي الملتزم بالإيمان بالله ،كعقيدةٍ وعبادةٍ ومنهجٍ للحياة ..الذي يتنافى مع كل اتجاهٍ آخر ،بحيث تتحول الساحة إلى صراعٍ مريرٍ بين الاتجاهين ،لينسحب أحدهما لمصلحة الآخر ،بكل الوسائل الممكنة ،بالرفق تارةً ،وبالعنف أخرى .ولذا فإن موقفي هو موقف العدوّ الذي يتحدى الأصنام ويرفضها ويعمل على تدميرها وإبعادها عن ذهنية الناس وحياتهم ،حتى لا تترك أيّ تأثير على الفكر والممارسة معاً ،من دون ملاحظةٍ لأية مسألةٍ عاطفيةٍ ذات صلة بالقرابة ،كما تدرجون عليه في ربط الجانب العقيدي بالجانب العاطفي في التزامكم بعقائد الآباء من موقع الإخلاص لهم ،فإن ذلك لا يربطني بشيء ،ولهذا فإنني لا أشعر بمسألة النسب كحالةٍ عاطفية عندما تقف أمام مسألة العقيدة ،ما يجعلني أتحدث عنهم بصفة أنهم آباؤكم ،مع أنهم آبائي أيضاً .
وعلى ضوء هذا ،فإننا نستطيع استيحاء القاعدة في اعتبار التضاد في العقيدة أساساً للعداوة القلبية والفكرية والعملية ضد رموز الكفر والضلال ومقدساتها ،في ما تمثله العقيدة من قاعدةٍ مصيريةٍ على مستوى واقع الإنسان والحياة ،ما يجعل لها علاقةً وثيقةً بكل القضايا المتصلة بهذا الجانب في الموقع الصميم .فإذا كان الناس يضمرون العداوة للأشخاص الذين يصطدمون بمصلحة قريب أو نسيب أو وطن أو سياسة ،فإن من الطبيعي أن توجّه مشاعر الإحساس بالعداوة للذين يرفضون الله ،أو يشركون به أو يحاربون دينه وشريعته ،أو يضطهدون أولياءه بطريق أولى ،لأن ذلك أكثر أهميّةً في حساب المصير .
ولكن ليس معنى العداوة التعسف والفوضى ،بل معناها الرفض والمواجهة التي تتحرك بحساباتٍ دقيقة قد يكمن بعضها في داخل النفس ،وقد تخرجفي بعضها الآخرإلى دائرة العلن ،تبعاً للمصلحة العليا لقضية الإيمان ،ما يجعل المسألة تدخل في دائرة الحركية في الأسلوب ،بينما يبقى لها عمقها الحاسم ،المتمثل بالمبدأ .
وهكذا أعلن إبراهيم العداوة بشكلٍ حاسمٍ ليحدّد الخطوط الفاصلة بين موقفه وموقفهم ،فيكون فريقاً مميزاً في الساحة ،في نظرته إلى الآخرين ،وفي نظرتهم إليه ،لتبدأ ساحة الصراع المريرة التي تثير علامات الاستفهام لدى الناس حول القضايا التي يدور حولها الصراع ،ولتبدأ عملية الاختيار من ذلك الموقع .
كيف نستوحي الموقف ؟
وهذا ما قد نستوحيه في كثيرٍ من المواقف المتصلة بالمبدأ في خطوط التمايز الواقعي للأشياء ،فقد لا يجوز إغفال القاعدة التي ترتكز عليها المواقف التفصيلية ،وإبعادها عن الإعلان ،بحجة أن ذلك قد يثير الحساسيات ،والمشاعر المتوترة ،ما قد يوحي بضرورة الهروب إلى عناوين وشعارات أخرى ..تحجب الحقيقة عن الناس .
إننا نعتقد أن مسألة الهويّة العقيديّة لا بد من أن تُعلن ،ليكون التوافق والتخالف من خلالها ،وليعترف بها الناس من موقعها الفكري والسياسي ،لتتحرك التفاصيل من ذلك الموقع ،فذلك هو السبيل لتحقيق التوازن في الحركة ،لأن المشاعر المتوترة التي يثيرها الإعلان الحاسم سوف تتبخر وتهدأ ،لتفسح في المجال للأمر الواقع أن يفرض نفسه .
إبراهيم يعلن التزامه برب العالمين
{إِلاَّ رَبَّ الْعاَلَمِينَ} قيل: إنه استثناء منقطع ،لعدم دخوله في المستثنى منه ،لأنه ليس ممن يعبدونه ،فيكون المعنى: إنهم عدو لي ،لكن رب العالمين ليس كذلك ،فإنه الرب الذي أعبده وأخلص له لأنه يملك مني ما لا يملكه أحد ،وينعم علي بما لم ينعم به أحد عليّ .