{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ} فهو الذي خلق الخلق بكل خصائصه وعناصره ومظاهره التي توحي بعظمة الخلق وقوّة الخالق ،وهو الذي يعيده ويرجعه كما كان بالبعث ،لأن القدرة على الإِيجاد من عدم تدل على القدرة على الإعادة بعد الموت ،لأنّ عمق القدرة لا يختلف في البداية عن النهاية ،بل قد تكون البداية أكثر صعوبةً من الإعادة ،لأنها تنطلق من دون مثال ،بينما تكون الإعادة من خلال المثال ،وتلك هي الحقيقة الإلهية التي لا بد للناس من أن يخضعوا لها من موقع الوجدان الذي يتطلع إلى الأشياء بوعيٍ ،ويحاكمها بفكرٍ ،ويبلغ نتائجها بإيمان .
{وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ} في ما أودعه في السماء من أسباب الرزق من الأمطار ونحوها ،وفي ما جعله في الأرض من الأسباب التي تدفع إلى الناس بكل ما يحتاجونه من أصناف الغذاء التي تقيم حياتهم وتحفظ وجودها ،{أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم الشرك .فإن مسألة الصدق والكذب في قضايا العقيدة تنطلق من الأدلة والبراهين التي يقيمها كل فريق على صحة دعواه ،في ما توحي به من عناصر الحقيقة الكامنة فيها .وهكذا ترون مما قدمناه لكم من الأدلة على وحدانية الله في قدرته وفي عظمته ،وفي خضوع كل شيء في الوجود له ،وفي ارتباط كل موجود به من خلال حاجته المطلقة إليه ،واستغنائه عنهم جميعاً ،ما يدل على أنه الله الواحد الذي لا شريك له .فإذا كنتم تنكرون ذلك وتلتزمون الشرك ،فقدّموا لنا البرهان عليه لنناقشه من موقع الفكر ،لتكون الحقيقة بنت الحوار ،وليكون الحوار الهادىء العميق أساس الوصول إلى النتائج الحاسمة في المعرفة ،فبذلك يحترم الإنسان نفسه ،ويحترم حركة الحياة من حوله .
الأسلوب القرآني العقلاني في حركة الصراع
وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يحرّك مواقع الصراع الفكري في ساحات العلم والمعرفة ،لتكون الحجة التي يقدمها كل فريق على قناعاته ،هي القوّة التي يملكها في ذاته ليقنع بها نفسه ويقدمها إلى غيره ليحصل على قناعاته الإيمانية من خلال المناقشة الفكرية العميقة التي تواجه عمق الأشياء بكل صفاءٍ وقوّة .وذلك هو سبيل الإيمان في ما يريد الإسلام أن يبلغه من إيمان الناس بحقائقه ،فلا يريد منهم الإيمان الأعمى القائم على إثارة الانفعالات ،لأن الانفعال قد يثير الفكرة في الوجدان في بعض الحالات ،ولكنه يطردها عند تبدل الانفعال وتحوّله إلى جانب آخر في حالةٍ أخرى ،بينما يركز العقل الإيمان على الحجة القاطعة ويتابع تأكيدها فيزيدها وضوحاً وعمقاً وإشراقاً وثباتاً .وذلك هو سرّ قوة الإسلام في حركة إيمانه من موقع عقلانيته في مواجهة قضايا الإنسان المؤمن العقلاني ،بدلاً من الإنسان المؤمن الانفعالي الساذج .
وهكذا نستوحي من ذلك ،أن على الداعية إلى الله ،أن يأخذ بأسباب المعرفة في حركته الرسالية في ساحة الصراع الفكري والعقيدي ،ليملك الحجة القوية التي يستطيع أن يقنع بها الناس ،ويتحدى بها الشبهات التي يثيرها الكافرون حول عقيدته ،وليواجه الحجة بالحجة ،ليكون الحوار منطلقاً من قاعدةٍ في الفكر لا من حالةٍ في الانفعال .