أم للإضراب ، ومن للاستفهام ، أي أن الإضراب انتقالي ، انتقل من السؤال عن أصل خلق الكون وما اشتمل وما توالى عليه من نعم الماء ، والإنبات وتصريف الرياح لتكون مبشرة بين يدي رحمته ، بعد ذلك سألهم عن أصل خلقهم ، وعن مآلهم ، وهو أمر متعلق أشد التعلق ، والمعنى من الذي خلقكم ابتداء ، وجعل لكم أجلا مسمى ، وتكفل برزقكم في الدنيا ، وعبر سبحانه عن بدء الخلق بقوله{ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ، مع أنه بدأه وخلقه في الماضي ، فهو قد ذكر المضارع دون الماضي لأمرين:أولهما . تصوير البدء واستمراره ، فالمضارع يدل على ذلك ، والثاني أن البدء في الخلق مستمر فهو في الحاضر والقابل كما كان في الماضي ، وقوله تعالى:{ ثُمَّ يُعِيدُهُ} التعبير بثم في موضعه ؛ لأن بين الإعادة والبدء أعمار الناس ، وليس ذلك زمنا قصيرا ، وذكر البدء في هذا المقام إنذار لهم وتذكير ، والحياة عابثة إذ لم يكن بها تذكير باليوم الآخر ، وإنما مستمر ، وسبحانه وتعالى يذكره دائما لكي لا ينسوه ، وفيه إنذار لهم وتبشير .
وإنه مع أن البعث جاء لا محالة تكفل سبحانه وتعالى ، برزقهم في الفترة التي يعيشونها ، فرحمة الله سابغة دائما ، ولذا قال تعالى:{ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} أي يرزقكم من السماء بنجومها المسخرات التي تهديكم في ظلمات البر والبحر ، والشمس بأشعتها الواقية والهادية ، والقمر بنوره الذي ينير لكم في جوف الليل البهيم ، والمطر الذي ينزل من السحاب فنحيي الأرض ، ويرزقكم من الأرض بمعدنها وأفلاذها ، ونباتها ، وحدائقها ذات البهجة والجمال .
لا يستوي الله الخالق المبدع مع الأوثان ، ثم قال تعالى:{ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أي لا إله مع الله ، وقد انتقل القرآن من بيان ما يوجب عبادة الله تعالى إلى مطالبتهم بأن يأتوا بدليل يسوغ عبادة الأوثان ، آمرا نبيه بأن يطالبهم بدليل يسوغ حالهم التي هم فيها من عبادة غيره .{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البرهان هو الدليل العقلي المنطقي ، أي هاتوا دليلا فعليا منطقيا يسوغ لكم عبادتها إن كنتم صادقين في استحقاقهم للعبادة .
طالبهم القرآن الكريم بالبرهان العقلي ، ولكنهم لا يمكن أن يأتوا به ، لأنه لا يمكن أن يكون هناك ثمة دليل علمي منطقي يسوغ عبادة أحجار لا تملك نفعا ، ولا ضررا ، وهي في ذاتها أقل في وجودها ممن يعبدونها ، ولكنه ضلال الأوهام .