علم الإنسان الحسي حاضر غير مغيب ، لأنه لم يؤت علم الغيب إلا الله تعالى ، ومن يشاء سبحانه أن يعطيه أحدا من عباده والعلم بالغيب هو العلم مما أكنه الله تعالى في الوجود في قابل الأمور ، لا في ماضيها ، فالماضي يعرف بالكتابة أو القراءة أو نحو ذلك ، وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يبين لقومه أنه لا يعلم الأمور الغيبية إلا الله ، فقال:{ قل} ، أي يا رسولي:{ لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، ومن هنا للعاقل ، وإذا انتفى الغيب عن العقلاء فهو عن غيرهم أنفى ، والغيب مفعول به ومن هنا تشمل العقلاء جميعا من يكونون في السموات والأرض فيدخل في العموم الملائكة ، والجن والإنس ، والاستثناء متصل فهو ليس منقطعا ، بمعنى لكن ، وإن كان قد ادعى بعض المفسرين ذلك ، وإن علم الإنسان في محيط وجوده وهو يحسب أن علمه هو ما يشعر به وحده ولا أحد غيره ، حتى إن الأعمى ، ما كان ليشعر بعلم المبصرين لولا تضافر الناس على نقص علمه ، وكذلك الأصم ، ولذا قال تعالى:{ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، أي في أي وقت يبعثون ، لا يشعرون في أي وقت يبعثون ، والشعور علم يقارب الحس الملتمس ، أي ما يحسون في أي وقت يبعثون ، كما قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . . ( 34 )} [ لقمان] . وإنه يستفاد من هذا أن علم الغيب هو العلم بما يقع في المستقبل لا بما هو واقع في الماضي أو الحاضر .
يروي في ذلك أنه دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي منجم فاعتقله ، فأخذ حصوات فعدها ، ثم قال:كم في يدي من حصاة ، فحسب المنجم ، ثم قال:كذا ، فأصاب ، ثم اعتقله فأخذ حصوات لم يعدهن ثم قال:كم في يدي ، فحسب وأخطأ ، ثم قال أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها ، وقال:لا ، قال فإني لا أجيد العد . قال فما الفرق ؟ قال إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب ، وهذا لم تحصه فهو غيب ، ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله .
ولقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت:"من زعم أن محمدا يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على الله تعالى ، يقول{ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .