فيها عدة قراءات في لفظ ادارك فقرئت من غير مد أدرك وقرئت أدرك ، وكلها قراءات يتقارب معناها ، ولا يتباعد ، ولنا أن ادارك أصلها تدارك قلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال وأتى بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن ، ومعنى ادارك تلاحق وتضافر العلم ، ولنا فيها تخريجان ، وكلاهما معقول:
أولهما أن تلاحق العلم في الدنيا ، فقد تلاحقت الأدلة على إمكان البعث ، والحياة في الآخرة مثل قوله تعالى{. . كما بدأكم تعودون ( 29 )} [ الأعراف] ، وقوله تعالى:{. . مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . . ( 79 )} [ يس] وقوله تعالى:{ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ( 50 ) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . ( 51 )} [ الإسراء] . وهكذا كثير من الآيات الكريمات التي تبين قرب العودة ، وأنها غير مستحيلة ، بل إنها واجبة ؛ لأن الله ما خلق الإنسانية عبثا ، كما قال تعالى:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ( 115 )} [ المؤمنون] إنها واجبة .
التخريج الثاني أن يكون ذلك العلم المتدارك المتلاحق في الآخرة ، إذ يكون الحس بالبعث ، ويكون الحساب والثواب والعقاب ، وتشهد عليهم ألسنتهم وسائر جوارحهم ، ويكون العلم اليقيني في الآخرة ، ويرشح لهذا قوله تعالى في الآخرة لأنه يفيد أن ذلك التلاحق العلمي في الآخرة .
وبل للإضراب الانتقالي ، وهو الانتقال من موضوع إلى موضوع ، أو الانتقال من عدم الشعور بالبعث إلى علم به علم اليقين ، وبل الثانية للإضراب الانتقالي ، وهو الانتقال من العلم المتلاحق الذي سيكون الآن أو من الآن إلا أنهم في حال شك من الإيمان ، لا اليقين ، ولذا قال تعالى:{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} ، أي أنه مع هذا العلم المتوافر المتثبت لليقين بالبعث كانوا في شك منه ، وقد أكد سبحانه الشك في قوله:{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} وكان التوكيد ببل المفيدة للإضراب ، وبالضمير ، وبأن الشك أحاط بهم كما تحيط الدائرة بقطرها ، فهم سيغرقون فيه لا يخرجون عنه ، ولا يتركونه إلى يقين أيضا ، والضمير يعود إلى الآخرة التي يرتابون فيها{ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} جمع عم أي أنهم عمي عن الآخرة ، أي أنها واقعة لا ريب ، ولكنهم عمون عن حقائقها ، وما يكون فيها ، فالحقائق ثابتة بأدلتها السمعية والنقلية ، ولكنهم عمون عنها غافلون ، وليس العيب في حقائق يوم القيامة ، إنما العيب في عماهم عنها .
وتقدم الجار والمجرور لمعنى الاختصاص ، أي أنهم عمون عن الحياة الآخرة وليسوا عمين عن غيرها ، وهي أعراض الدنيا ، وما فيها من لهو ولعب ، وملاذ ، وشهوات ، وأكد الحكم بالإضراب وبالضمير ، وبالجملة الاسمية .