{بَلِ ادّاركَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي انقطع علمهم بالآخرة وزال بحيث لم يبق منه شيء انطلاقاً من استغراقهم في علمهم بالجهات الأخرى من الدنيا حتى نفد علمهم ،فلم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة ،وعلى هذا الأساس كان علمهم بها ساقطاً كما لو كان موجوداً ثم ذهب باعتبار وجود الاستعداد له وعدم صرفه فيها .وهناك وجهٌ آخر وهو ،أن «ادّارك » بمعنى تكامل واستحكم ،وتطبيق ذلك في معنى الآية على وجهينفي ما ذكره صاحب الكشافأحدهما: «أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب منه ،قد حصلت لهم ومكّنوا من معرفته ،وهم شاكون جاهلون ،وهو قوله:{بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} يريد المشركين ممن في السموات والأرض ،لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ،كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم .
فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب ،وإن العباد لا علم لهم بشيء منه ،وإنّ وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به ،فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة ؟قلت: لمَّا ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ،ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون منه ،وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه ،وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد أن يكونوهو وقت جزاء أعمالهم: لا يكون ،مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به .
الوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكّم بهم ،كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك !على سبيل الهزؤ ،وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي ،الطريق إلى علمه مسلوك ،فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته »[ 1] .
وقد ناقش صاحب الميزان هذا التفسير ،بأنه لا يلائم ما يتبعه من الإضراب بالشك والعمى[ 2] .ولكننا نلاحظ أن المعنى الذي ذكره صاحب الكشاف أقرب إلى جوّ التعبير ،وذلك من خلال التأكيد على علمهم بالآخرة مما يتناسب مع توفر أسبابه ،مع عدم وجود قرينةٍ لفظيةٍ على ما ذكره العلامة الطباطبائي في الميزان من صرف علمهم في أشياء أخرى بالمستوى الذي لم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة[ 3] .وعلى ضوء ذلك ،ينسجم المعنى المذكور في الكشاف مع الفقرة التالية:{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} من خلال عدم أخذهم بأسباب العلم ،وحيرتهم أمام حديث الأنبياء عن الآخرة ،ما يجعلهم في موقع الشك{بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} لا يدركون منها شيئاً ،لأنهم استغرقوا في أجواء اللهو والعبث ،وانصرفوا عن التفكير في أمر الآخرة ،فعاشوا في مواقع العمى الفكري والروحي .
ومن هنا نفهم أن هذا التدرّج في الحديث عنهم ينطلق من دراسة حالتهم النفسية أمام واقع الدليل الذي يفرض الإيمان بالآخرة ويؤدي إلى العلم بها ،أو يثير التفكير بها ،ما يجعل الانصراف عنه وقوعاً في الشك والعمى عن الحقيقة .