{قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ} وتطلعوا إلى تاريخ الأمم التي كانت قبلكم ممن كفروا بالله وبرسله وباليوم الآخر وتمرّدوا على حقائق الإيمان وشرائعه من دون حجةٍ ولا برهانٍ ،فلم يكن لديهم أساس من العلم والمعرفة في ما يرفضونه ،أو ينحرفون عنه من الحقيقة الإلهية والخط الرسالي ،ما يجعل المسألة في حجم الجريمة ،لأن مفهوم الجريمة في المضمون القرآني ،لا يقتصر على التمرّد العملي في ما يقوم به الناس ضد بعضهم البعض ،أو ضد أنفسهم ،بل يتعداه إلى التمرد الفكري الذي لا يملك الإنسان مقوّماته ،ولا يتحرك به من مواقع القناعة ،بل من مواقع العناد ،ولا سيّما إذا كان في ذلك افتراءٌ على الله أو تكذيبٌ بآياته .وهذا مما جاءت به الآيات مثل قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [ الأنعام: 21] .ما يجعل ذلك في المستوى الأعلى من الظلم الذي هو جريمة إنسانية في ما يمثله من حالةٍ عدوانية ..ولهذا فإن الآية تجعل من الدعوة إلى السير في الأرض لدراسة مصير أمثال هؤلاء الكافرين ممن سبقهم ،تحذيراً لهم عن ملاقاة المصير نفسه{فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} لتتفادوا الوقوع في النتائج السيئة القاسية من خلال ذلك .
وقد يقول قائل: إن هذه الآية ليست ردّاً على ما أثاروه من الاستبعاد ،ومن التأكيد على أسطوريَّة هذه العقيدة ،بل هي مجرد تحذير وتهديد ،مما لا ينسجم مع الأسلوب الفكري في بناء العقيدة .
والجواب عن ذلك: أن المقصود من التحذير هو إيجاد صدمةٍ نفسيةٍ قويةٍ ضد حالة الاستخفاف الفكري التي يواجهون بها مسألة العقيدة ،بالاستبعاد تارة ،وبالاستهزاء أخرى ،وباللامبالاة ثالثةً ،ما يجعل من حالتهم حالةً عدوانيةً مضادّة ،تستهدف إسقاط الموقف لا مناقشة الفكرة ،ولذلك فإن الرّد لا بد من أن يكون ردّاً مضاداً للثقة النفسية التي يتمثلونها في موقفهم ،ليدفعهم ذلك إلى إعادة النظر في أسلوبهم العملي من خلال الخوف من نتائج المصير .
وهذه هي الطريقة الحكيمة التي ينطلق بها المنهج القرآني ،في مناقشة مواقع الفكر بمواقع الفكر ،ومواجهة قضايا التمرد والاستخفاف واللامبالاة ،بأسلوب الصدمة النفسية القائمة على التحذير والتهديد ،لأن ذلك هو خطّ الحكمة في وضع الشيء في موضعه .