/ت172
القوّة تكمن في الإيمان الرّاسخ:
وتتجسّد الصورة التي توحي بالقوّة من قاعدة الإيمان ،فتهزم بروحيتها كلّ أساليب التخويف والترهيب [ الذين قال لهم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم] ،فقد انطلقت هذه الكلمات في عملية إيحاء بضخامة العدد والعدّة الذي يتمثّل في اجتماع هذا العدد الغفير من النَّاس لحرب المسلمين ،بالمستوى الذي لا يستطيع المسلمون مواجهته على طريقة الحسابات الماديّة ؛الأمر الذي يدفع بهم إلى الشعور بالخوف من المشركين ،فيتراجعون عن مواقفهم أمامهم أو يخففون من اندفاعهم في التحدِّيات التي يثيرونها في صراعهم مع الشرك ،فيقبلون بالتسويات التي يأخذ فيها الإيمان حصّة ليأخذ الشرك في مقابلها حصة ،فينتهي بهم الأمر إلى الانسحاب من مواقعهم الحقيقية في نهاية المطاف ،لأنَّ الذين يتساهلون في بعض المواقف الحيوية تحت تأثير عامل الخوف سوف يتساهلون في القضايا والمواقف الأخرى للسبب نفسه في حالة أخرى .
ولكن هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا للّه وللرّسول ،كانوا يعيشون الإيمان في أنفسهم كعاملٍ من عوامل الشعور العميق بالقوّة ،من خلال الشعور بالانتماء إلى اللّه القويّ القادر ،ولهذا كان ردّ فعلهم على هذا التحدّي مزيداً من التصعيد في حركة الإيمان في الداخل ،لأنَّ المؤمن يعيش الانتماء إلى اللّه والاعتماد عليه واللجوء إليه في حالات التحدّي بالمستوى الذي يملأ نفسه بالقوّة ،ويفرّغ داخله من كلّ مشاعر الضعف التي تهزم مواقفه ...وبذلك يزداد إيماناً في فكره وشعوره ،لأنَّ التجربة الصعبة لدى الواعين من المؤمنين لا تضعف الإيمان ،بل تُنمّيه وتقوّيه ،وتربطه بالأسس الثابتة التي ارتكز عليها وانطلق منها في ما يتحسسه من حركة الإيمان في خطّ الواقع ،وفي ما يُعانيه من ارتباط التجربة بقضايا الإيمان .
وهناك نقطة أخرى ،وهي أنَّ التحدِّيات الكافرة كلّما كبُرت كلّما كانت دليلاً جديداً على مستوى الخطورة التي تمثّلها حركة الإيمان ضدّ الكفر ،ما يمنح المؤمن شعوراً بقوّة الموقف في قوّة الإيمان ،لأنَّ ردّ الفعل في حركة الكفر في ما يمثّله من أساليب العدوان لا يدلّ على قوّة في الموقف ،بل يوحي بحالة الضعف التي تدفع إلى التشنّج والانفعال العدواني .وفي هذا الموقف يشعر المؤمنون أنَّ عليهم مواصلة الفعل من مواقعهم القويّة ،ليرتفع مستوى الحركة إلى أعلى ما يستطيع العاملون أن يبلغوه .وهذا هو وحي القرآن في تصويره لهذه الروح الفاعلة الصاعدة: [ فزادهم إيماناً وقالوا حسبُنا اللّه ونعم الوكيل] فقد وازنوا بين قوّة هؤلاء النَّاس الذين جمعوا لهم ،وعرفوا أنَّ قوّتهم لا تملك عمقاً ذاتياً في حسابات القوّة ،ولا تملك امتداداً في التأثير ،لأنَّها محدودة في ذاتها وفي أثرها ...وبين قوّة اللّه المطلقة التي تمنح القوّة كما يشاء وتسلبها كما يشاء ،وحدّدوا موقفهم على هذا الأساس ،فاختاروا الارتباط بالمطلق ولم يخضعوا للمحدود ؛فشعروا بالكفاية باللّه ،فهو الذي يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء ،وهو الوكيل عن عباده المؤمنين في ما يقوم به من حمايتهم وحفظهم من كلّ سوء .