/م21
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
وهذا نموذج من النماذج السلبية للتصرفات المنحرفة المتحدية التي يمارسها أهل الكتاب ضد الدعوات الإسلامية للموقف الواحد أمام القضايا المشتركة .فإذا كان هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في معلوماتهم عنه ،يؤمنون به ،فإن هذا الإيمان يفرض عليهم الالتزام بأحكامه ،باعتباره المرجع الأول والأخير لهم ،ولكنهم لا يلتزمون ولا يتعاطفون مع الدعوة المخلصة إلى أن يكون هو الأساس في الحكم بينهم عندما يكون هناك خلاف ونزاع يبحث عن أساسٍ للحل ،فيعرضون عنه عصياناً وتمرّداً ،ما يوحي بأن ارتباطهم به يمثل العصبية ولا يمثل الإخلاص للعقيدة ،وبأنهم يستريحون إلى فكرة خاطئة ،وهي أن النار لا تمس اليهودي إلا أياماً معدودات ،فليس هناك زمن طويل للعذاب فضلاً عن الخلود فيه ،فلا مشكلة صعبة من هذه الجهة ،ولا موجب للانضباط في خط الطاعة في الدنيا على أساس التخلص من العذاب في الآخرة .
ولكن القرآن يقرر بأن هذا افتراءٌ وغرورٌ ،افتروه على الله وغرّوا به أنفسهم ،تماماً كمن يكذب ثم يقنع نفسه بصدق الكذبة على امتداد الزمن ،فيتحمل نتائجها السيئة بدون شعور .إن الحقيقة تفرض نفسها على علاقة الخالق بالمخلوقين ،فليس هناك أحدٌ أولى به من أحد ،ليحصل شخصٌ ما على امتياز دون آخر ،أو شعب دون شعب ،إنما القضية مسؤولية وطاعة ،فمن حمل المسؤولية بصدق وأطاع الله بيقين ،كان قريباً لله ،مهما كان حجمه صغيراً في الجسم والموقع ،ومن لم يكن كذلك كان بعيداً عن الله ،مهما كان كبيراً في حجمه وفي موقعه الاجتماعي في الحياة ...
ماذا ينتظر اليهود يوم القيامة ؟
ثم يوحي القرآن لهم بالصورة المرعبة الهائلة التي تنتظرهم في يوم الجمع الذي يجمع الله فيه الخلائق ليحاسب كل نفس على ما عملت ،بعيداً عن أيّة صفة أو امتياز ،إنه العمل ،ثم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شر وهم لا يظلمون ،فقد جعل الله شعار ذلك الموقف لا ظلم اليوم ،وهو سبحانه أعظم من أن يظلم عباده في قليل أو كثير .
ونلاحظ أن الله عبر عن هؤلاء بقوله:{أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} ولم يقل: أوتوا الكتاب ،وربما كان ذلك إشارةً إلى أنهم لا يملكون المعرفة الشاملة للكتاب كله ،لأنهم أخذوا ما ينفعهم ويحقق لهم السيطرة على الناس من خلال بعض النصوص المتشابهة التي يمكن لهم أن يؤولّوها كما شاؤوا أو يحرفوها كما أرادوا ،وتركوا النصوص الواضحة الصريحة التي لا مجال فيها للالتباس والاشتباه والتحريف والتأويل لئلا يطّلع الناس عليها فتكون حجةً عليهم ،وهكذا أضاعوا بعض أجزائه من خلال ذلك فلم يبق منه إلا القليل .
دروس من وحي الآيات
ماذا نستوحي من ذلك كله فيما نواجه من واقع الحياة في حركة الدعوة إلى الله ؟
1إن هناك نماذج متعددة من الفئات التي تمارس الأعمال التي كان يمارسها اليهود ،ومنهم اليهود الذين اغتصبوا أرض المسلمين وشردوا أهلها وعاثوا في الأرض فساداً وما زالوا يقتلون الذي يأمر بالعدل وينهى عن الظلم… ومنهم الحاكمون الذين ينتسبون إلى الإسلام بالاسم ولكنهم يحملون مبادىء وشعارات غير إسلامية ،فيحكمون الناس بغير ما أنزله الله طغياناً وظلماً ،ويقتلون الدعاة إلى الله من دون أيّ أساس للعدل ،وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم .ومنهم الفئات التي تملك بعض وسائل القوة التي تمكّنها من فرض السيطرة على منطقة معينة ،وتتحرك من موقع شعارات كافرة لا تتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد ،فتحاول أن تعتدي على العاملين للإسلام ...
وهكذا ينبغي للمؤمن أن يتلمّس في النماذج الواقعية الموجودة على الساحة السياسية والاجتماعية والدينية ،الأفق الواسع للآية في حركة الحياة ،فلا تبقى مجرد حدث يعيش في التاريخ ،بل تكون ،كما هو القرآن في آياته ،حدثاً متجدداً يمتد مع الحياة في المستقبل كما عاش في الماضي .وبذلك يظل الوحي مشيراً بيده إلى الإنسان في عملية تجدد وانطلاق ،ويبقى لنا أن نحتفظ بمشاعرنا المضادة لهؤلاء الذين يصنعون مأساة الناس الذين يأمرون بالقسط في الحاضر والمستقبل ،لنستطيع من خلال ذلك أن نمنع وقوع المأساة بالمزيد من الضغوط التي نملك إمكاناتها العاطفية والواقعية .
2أن موقف هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ،في امتناعهم عن الخضوع لحكم الكتاب ،يشبه كثيراً موقف بعض المسلمين في رفضهم للتحاكم على أساس حكم القرآن ،لأنه لا يتفق مع مصالحهم الخاصة ،ويتعلّلون لذلك بالمزيد من الأسباب الواهية التي لا تثبت أمام النقد .وقد نجد بعض النماذج التي ترفض الخط الذي يعمل من أجل الدعوة إلى أن تحكم الحياة شريعة الله ،فيثيرون أمامه المشاكل والعقبات التي تعطل فاعليته وتشل حركته ،لأن ذلك قد يحرمهم بعض الامتيازات ،أو يدفعهم لبعض التضحيات ،أو يسبّب لهم بعض المتاعب الذاتية .وقد يفكر مثل هؤلاء بأن المسلمين لا يخلدون في النار من جهة بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال ،وبذلك يعطون لأنفسهم الحرية في ممارسة المعاصي التي سوف لا تكلفهم خسارة الجنة في نهاية المطاف .إن الله يتحدث مع هؤلاء المسلمين ،كما تحدث مع اليهود ،لأن منطقهم واحد ،والردّ عليه هو نفسه ؛والله العالم .
3إذا صحت الروايتان اللتان تقدّمتا في «أسباب النزول » ،كانتا دليلاً على أن الله ينزل آياته في المفاصل التاريخية التي تمثل الخلل الذي يصيب المجتمع اليهودي في انحرافه عن التوراة التي هي كتاب الله في عقيدتهم ،فلا يلتزمون أحكامها إذا كانت المطالبة بذلك من قِبل غيرهم ،فإذا ألزمهم ببعض ما فيها من الشرائع التي تفرض عليهم الحكم القاسي الذي لا يريدونه لأشرافهم الذين يملكون بعض الامتيازات الاجتماعية التي تنأى بهم عن الخضوع للقانون الإلهي في التوراة ،وقفوا في حالة الإحراج الديني لإخفاء الآيات التي تتحدث عن ذلك .
ونجد في الرواية الأولى ،أن النبي( ص ) كان يزور مدراس اليهود ليدخل في حوار معهم ، باعتبار أنها مركز الفكر اليهودي الذي يفرض على طلابه والقائمين عليه أن يؤكدوا التزامهم بالتوراة ،ليكون الحوار من خلالها باعتبار أنها ملزمة لهم في مضمونها الشرعي ،ولكنهمبدلاً من ذلكرفضوا الاحتكام إليها للتدليل على دعواهم أن إبراهيم كان يهودياً ،عندما أراد رسول الله منهم أن يخرجوا التوراة ليقرأوها ،لأنه واثق من زيف هذه الدعوى عندهم .
وهكذا نلاحظ أن النبي( ص ) كان يؤكد الانتماء إلى ملة إبراهيم ودينه ليجرّهم إلى الاقتراب منه ،لأنهم كانوا يؤمنون بإبراهيم كنبي ويزعمون أنه يهودي ،كأسلوب نبويّ في الوقوف مع الآخرين عند مواقف اللقاء في العنوان العام للدين ،كما في القضايا الآخرى المشتركة بين الأديان ،ولكنهم كانوا يرفضون الدخول في الحوار معه ويتهربون من ذلك .
ونلاحظفي الرواية الثانيةأن النبي( ص ) كان في حكمه على المجرمين من اليهود ،يحاول أن يؤكد لهم أن حكمه الشرعي في الزنا ،لا يختلف عما لديهم من أحكام الزاني المحصن ،تدليلاً على مواقع الوفاق بين الشريعتين ،باعتبار أن الإسلام جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ،ولكن عنادهم كان يحول بين النبي( ص ) وأسلوبه في تحقيق الانفراج الفكري والشرعي في علاقته بهم ،لتقريبهم إلى الإيمان بالإسلام .