{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون *}
كان سابق الكلام في تقرير التوحيد وإقامة الدلائل عليه وعلى الحشر وبيان ثواب العاملين ، وقيام الحجة على المعاندين ، لأن البلاغ قد أوضح المحجة للناس فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فحسابهم على الله تعالى .ثم ذكر أشد ما كان من أهل الكتاب الذين تولوا عن الدعوة من قبل إذ كانوا يقتلون الأنبياء والآمرين بالقسط وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يحزنه إعراضهم ، ولذلك التفت إلى خطابه بأعجب شأنهم في الدين لذلك العهد فقال:{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد:على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ودينه ، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم .فأنزل الله:{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتابإلى قولهيفترون} ذكر هذا التخريج السيوطي في لباب النقول وأخرجه أيضا ابن جرير في تفسيره .
فكتاب الله الذي يدعون إليه هو التوراة على هذا الوجه .قال ابن جرير:وقيل بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد ، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحق فأبت .روي ذلك عن قتادة وابن جريج ورجح الأول ، ومعناه ألم تر يا محمد إلى هؤلاء الذين تعجب لعدم إيمانهم بك على وضوح ما جئت به كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم .ووقائع الأحوال في عصر التنزيل تتفق مع كل من القولين .فقد كانوا يتولون عن حكم التوراة إذا خالف أهواءهم كما يفعل أهل كل دين في طور انحلال الدين وضعفه وكانوا ربما تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عازمين على قبول حكمه حتى إذا كان على غير ما أحبوا خالفوه كما فعلوا يوم زنا أشرافهم وحكموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولوا وأعرضوا عن قبول حكمه لأنهم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم .
أما قوله: "أوتوا نصيبا "فقد علم ما هو تفسيره المختار عندنا فيما تقدم أول السورة من تفسير التوراة والإنجيل وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية إنه مبين لقوله تعالى:{ أوتوا الكتاب} وهو بمعنى{ لا يعلمون الكتاب إلا أماني} [ البقرة:78] فالنصيب عبارة عن تمسكهم بالألفاظ بتعظيمها وتعظيم ما تكتب فيه مع عدم العناية بالمعاني بفقهها والعمل بها .
قال:ولك أن تقول:إن ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم ( أو قال الكتب ) وقد فقدوا سائره وهم مع ذلك لا يقيمونه بحسن الفهم له والتزام العمل به .ولا غرابة في فقد بعض الكتاب فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام التي يسمونها التوراة لا دليل على أنه هو الذي كتبها ولا هي محفوظة عنه بل قام الدليل عند الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بمئات من السنين ( أراه خمس مئة سنة ) وكذلك يقال في سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء في المجموع الذي يسمونه ( الكتاب المقدس ) أقول ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أول مرة ولا دليل على أن موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنما كانت لغته مصرية فأين هي التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنها ؟
أما قوله تعالى:{ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} فللتراخي فيه وجهان أحدهما:استبعاد توليهم لأنه خلاف الأصل الذي يكون عليه المؤمن .ثانيها:أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولى ذلك الفريق بعد تردد وترو في القبول وعدمه وكان من مقتضى الإيمان أن لا يتردد المؤمن في إجابة الدعوة إلى حكم كتابه الذي هو أصل دينه .أورده الأستاذ الإمام وقال:على أنهم لم يكتفوا بالتردد حتى تولوا بالفعل ولم يكن التولي عرضا حدث لهم بعد أن كانوا مقبلين على الكتاب خاضعين لحكمه في كل حال وآن ، بل هو وصف لهم لازم بل اللازم لهم ما هو شر منه وهو الإعراض عن كتاب الله في عامة أحوالهم:فجملة: "وهم معرضون "ليست للتولي كما قيل بل هي مؤسسة لوصف الإعراض الذي هو أبلغ منه .وإنما قال"فريق منهم "لأن هذا الوصف ليس عاما لكل فرد منهم بل كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون .ومنهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
أقول:وهذا مما عهدنا في أسلوب القرآن من تحديد الحقائق والاحتراس في الحكم على الأمم فتارة يحكم على فريق منهم في مقام بيان شؤونهم وتارة يحكم على أكثرهم وإذا أطلق الحكم في بعض الآيات يتبعه بالاستثناءاستثناء الأقل كقوله{ تولوا إلا قليلا منهم} [ البقرة:246] .