{ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} روى ابن جرير وغيره من المفسرين أن بعض اليهود قالوا ذلك وأن الأيام المعدودات هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل وقال الأستاذ الإمام:إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شيء وليس في كتب اليهود التي في أيديهم وعد بالآخرة ولا وعيد فكل ما وعدت به على العمل بالكتاب هو الخير والخصب والسلطة في الأرض وما أوعدت به وهو سلب هذه النعم وتسليط الأمم عليهم ، ولكن الإسلام بين لنا أن كل نبي أمر بالإيمان باليوم الآخر ووعد وأوعد .فهذا هو الحق سواء أوجد في كتبهم أم لم يوجد .يعني أننا نعد هذا مما أضاعوه ونسوه على ما بينا في تفسير التوراة والإنجيل .قال والجملة عبارة عن استسهال العقوبة والاستخفاف بها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء واعتمادا على مجرد الانتساب إلى الدين وكانوا يعتقدون أن ذلك كاف في نجاتهم ، ومن استخف بوعيد الدين زاعما أنه خفيف في نفسه أو أنه غير واقع بمن يستحقه حتما تزول حرمة الأوامر والنواهي من نفسه فيقدم على ارتكاب المحارم بلا مبالاة ويتهاون في الطاعات المحتمة وهكذا شأن الأمم عندنا تفسق عن دينها وتنتهك حرماته ، ظهر في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين .
وأقول:لعل المراد بعبارة الآية أنهم كانوا يعتقدون أن الإسرائيلي إذا عوقب فإن عقوبته لا تكون إلا قليلة كما هو اعتقاد أكثر المسلمين اليوم إذ يقولون:المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات ، وإما تنجيه الكفارات وإما أن يمنح العفو والمغفرة بمحض الفضل والإحسان ، فإن فاته كل ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة .وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار كيفما كانت حالهم ومهما كانت أعمالهم .والقرآن لا يقيم للانتساب إلى دين ما وزنا وإنما ينوط أمر النجاة من النار ، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار ، بالإيمان الذي وصفه وذكر علامات أهله وصفاتهم وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة مع التقوى وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
وأما المغفرة فهي خاصة في حكم القرآن بمن لم تحط به خطيئته وأما من أحاطت به حتى استغرقت شعوره ورانت على قلبه فصار همه محصورا في إرضاء شهوته ولم يبق للدين سلطان على نفسه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأن من يجعل الدين جنسية وينوط النجاة من النار بالانتساب إليه أو الاتكال على من أقامه من السلف فهو مغتر بالوهم ، مفتر يقول على الله بغير علم ، كما قال هنا{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} أي بما زعموا من تحديد مدة العقوبة للأمة في مجموعها وهذا من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم في دينهم ومثله لا يعرف بالرأي ولا بالفكر لأنه من أمر عالم الغيب فلا يعرف إلا بوحي من الله وليس في الوحي ما يؤيده ولا يوثق به إلا بعهد منه عز وجل ولا عهد بهذا وإنما عهد الله ما سبق في سورة البقرة:{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [ البقرة:8082] .ثم توعدهم تعالى على هذا الافتراء بقوله:{ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} .