{ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات}في هذه الآية يبين سبحانه السبب في انهم لا يقبلون على الخير ولا يعملون بالحق ،وهو اعتقاد انهم لن يعاقبوا عقابا أليما ،ولن يعذبوا عذابا شديدا ؛وذلك لما ركز في نفوسهم من انهم أبناء الله وأحباؤه ،وأنهم شعب الله المختار ،وأنهم لا يحاسبون غلا بمقدار ما يحاسب الأب ولده المدلل ،وحبيبه المختار ،إذا رأى مخالفة او عنادا فإنه لا يجافيه ولا يعاقبه ،ولكن يقربه ويعاتبه ؛فمعنى{ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات}:ذلك الإعراض عن الحق ،والتولي عن الداعي إليه ،واللجاجة في الباطل ؛بل المراد الاستخفاف بالعقاب والاستهانة به ،وعدم الالتفات إلى وعيد الله ،وزعمهم الباطل انهم ينالون ما وعد به من ثواب ونعيم مقيم من غير عمل يعملونه ،ولا كسب يكسبونه ،فهم بهذا قد استناموا إلى الأماني وغرتهم الأوهام .
ولماذا كان الاستخفاف بالعقاب وعدم الاهتمام بالوعيد سببا في الإعراض عن الحق ؟الجواب عن ذلك ان الحق يصل غليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة:إما بإشراق النفس ،واستقامة القلب ،وسلامة الفكر من الهوى والغرض ،وذلك شان من زكت نفوسهم وعلت قلوبهم ؛وغما شكر للنعمة ،ووفاء لحق المنعم ،وذلك شان عباد الله الخيار ؛وغما خوف العقاب والحساب ،وذلك شان المتقين وأولئك قد حرموا الأول والثاني ،فلم إلا الثالث ،فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بورا .وغن المؤمن يجب ان يصون نفسه دائما بخوف العقاب ،وان يغلب الخوف على الرجاء ؛فإنه عن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة على النفس وإذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأر كست في السيئات ،وارتكبت الموبقات ؛ وذلك شان كثيرين من المنتسبين للأديان ،وشان كثيرين من المسلمين في هذه الأيام . وإنه يجب على المؤمن ألا يغتر ،ولا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب . ولقد رد الله سبحانه وتعالى في غير هذه الآية على اليهود في زعمهم انهم لا يعاقبون إلا أياما معدودة ،فقد قال الله تعالى:{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ام تقولون على الله ما لا تعلمون80بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون81 والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون82}[ البقرة] .
{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون}يقال غررت فلانا أي أصبت غرته ونلت منه ما أريد بسبب ذلك ،والغرة:الغفلة والغفوة .ومعنى{ وغرهم فيد دينهم ما كانوا يفترون}:أصاب موضع الغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترون أي يكذبونه متعمدين قاصدين .
وإن الأوهام التي ترد على النفس وتستولي على القلب تدفع على الضلال ،وكذلك شان هؤلاء اليهود:تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم ،وابغضوا غيرهم بغضا شديدا ،حتى إنه لا يتصور ان يهوديا احب غير يهودي لغير مآرب من مآرب الدنيا ،او غاية من غاياتها ؛وحتى بقد حسبوا ان الديانة جنس ،واندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام ،ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها ، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل ،حتى أصابت غرة وغفلة في عقولهم ،فاعتقدوا ما لا يعتقد ؛ اعتقدوا انهم شعب الله المختار ،وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، واعتقدوا ان الجزاء بالجنس لا بالعمل ؛وهذا ما يفيده قوله تعالى:{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون}أي ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل .