{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} وهي قبيلة من العرب سميت باسم الأب الذي تناسلت منه ،وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطانكما قيلوكانت تسكن اليمن ،{فِي مَسْاكَنِهِمْ} أي بلدهم{آيَةٌ} أي علامةٌ تهديهم إلى الله وتدلّهم عليه وعلى رعايته لعباده وعنايته بهم في ما يفيض عليهم من نعمه الوافرة ،مما يمكن أن يجعلوه أساساً للتأمل والتفكير الذي يقودهم إلى المزيد من معرفتهم بالله وارتباطهم به مما تفرضه حاجاتهم العامة والخاصة له ،فالله أعدَّ للناس كل ما يتصل بوجودهم واستمرار حياتهم .
{جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} والجنة هي البستان المشتمل على الخضرة والفاكهة والورود المتنوعة بأشكالها وألوانها وخصائصها وعناصرها الذاتية ،في طعمها وريحها ومنظرها ،بما يملأ العين والقلب والحياة .وهكذا كان على اليمين بستانٌ ممتدٌ يشمل المنطقة كلها ،وبستانٌ ممتد على الشمال بالمستوى نفسه .وقد تنوّعت كلمات المفسرين وخيالاتهم ،أو استيحاءاتُهم في تصوير الروعة الناضرة والنعم الوافرة ،فقيل: إن ديارهم كانت على وتيرةٍ واحدةٍ ،إذ البساتين عن يمينهم وشمالهم متصلة بعضها ببعض ،وكان من كثرة النعم أن المرأة كانت تمشي والمكتل على رأسها فيمتلىء بالفواكه من غير أن تمس يدها شيئاً ،وقيل: إنه لم يكن في قريتهم بعوضةٌ ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حيّة ،وكان الغريب إذا دخل بلدهم ،وفي ثيابه قمل ودواب ماتت ،إلى غير ذلك من الأقوال ..
وكانت كل هذه النعم الوافرة تقول لهم بلسان ربهم الذي أودع في قلوبهم سرّ الوحي بالإيمان ،والمعرفة بالله والشكر له ،{كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ} بالكلمة المنفتحة على نعمه ،المعترفة بفضله ،وبالعمل الصالح الذي يتجسد فيه رضاه ،ويلتقي بالمعنى الإيماني العميق المتصل به في كل مواقع نعمه ،{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} في مائها وهوائها وثمارها وروائحها ،{وَرَبٌّ غَفُورٌ} في ما يوحي به معنى الغفران ،من الرحمة والعطف والحنان الإلهي الذي لا ينتظر فيه الرب عباده ليخطئوا حتى يعاقبهم ،بل إنه ينتظرهم ليرجعوا إليهبعد الخطأليغفر لهم .ومن خلال ذلك ،فإن الآية توحي للناس بأن بإمكانهم الاطمئنان للاستمرار في حياتهم ،بالانفتاح على النعم الوافرة الطيبة التي يغدقها الله عليهم ،من خلال رحمته وعفوه ومغفرته ،ورعايته لهم في كل أمورهم الخاصة والعامة ،فليسوا مهملين ،وليسوا ضائعين ،لأن الربّ الذي خلقهم ،لن يتركهم للضياع ،ولن يقسو عليهم بالعقاب ،ما دام هناك شكرٌ واعٍ للنعمة ،وحركةٌ منطلقةٌ في خط الإيمان .وهذا هو النداء المتحرك الدائم في كل عصرٍ ومصرٍ ،لأن الله لا يزال يتعهّد عباده بنعمه ،ويدعوهم إلى شكره ،لأن ذلك هو الذي يفتح قلوبهم عليه ،من خلال حاجتهم إليه ،ويفتح حياتهم على وحيه وشريعته من خلال إيمانهم الواعي العميق بربويته .
أيها الناس ،لقد رزقكم الله نعمة الحياة في نعمة الوجود ،ونعمة الاستمرار في الحياة من خلال ما أودعه من مفردات النعم الكثيرة في نعمة البقاء ،فاغترفوا من ينابيع نعمه ،وكلوا من مائدته ،واشكروا له ،فأنتم في الكون الواسع الممتد تعيشون في بلدةٍ طيبةٍ ،تحتوي نعماً طيبة ،وتتحركون في عناية رب غفور ،يغفر لكم ذنوبكم ،ليضمكم إلى كنف رحمته .