{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} لم يعرفوا به ساعة حدوثه و{مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ} وهي الأرضة{تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاه ،{فَلَمَّا خَرَّ} إلى الأرض{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} الحقيقة الإيمانية التي تؤكد على استقلال الله بعلم الغيب ،فلا يملك أحدٌ من عباده أيّة ملكةٍ في هذا المجال ،إلاَّ بمقدار ما يعطيهم من مفردات الغيب ،في ما يحتاجون إليه ،خلافاً للفكرة الشعبية التي تؤمن بأن الجن يعلمون الغيب ،ويقيمون علاقاتٍ خاصةً مع الإنس ،فيطلعوهم على الغيب ليضروا به بعض الناس ،ولينفعوا بعضاً آخر ،أو ليكتشفوا أسرارهم ،وربما كان الجن يعتقدون في أنفسهم ذلك ،بما قد يستوحونه من غيب بعض الأمور من خلال ملامحها ،في ما يجدونه من المفردات التي توحي بمستقبلها ،أو في ما يطّلعون عليه من خفايا الأمور في الآفاق الواسعة التي يتحركون فيها مما لم يطلَّع عليه البشر ،ولكنهم واجهوا هذه الحقيقةمن خلال هذه التجربة الفريدةفقد استمروا على العمل القاسي وهم يحسبون أن سليمان ينظر إليهم ويراقبهم ،وعرفوا{أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} الذي كانوا يعيشون فيه القهر والمذلّة والهوان .
وقد نحتاج إلى تسجيل ملاحظة حَذِرةٍ على الروايات التي حدّدت المدّة التي مضت على جهلهم بوفاة سليمان الذي بقيوهو ميتمتكئاً على عصاه ،مفتوح العينين ،كما لو كان يراقبهم ،حتى جاءت الأرضة وأكلت عصاه ،فانكسرت فوقع ،وعرفوا بموته .
فقد نلاحظ أن بقاء سليمان في هذا الوقت الطويل ،لا بد من أن يلفت أنظارهم وأنظار الآخرين ،لا سيما إذا لاحظنا استمراره في الليل والنهار ،مما لم يعهد ذلك منه ولا من غيره ،وعدم تناوله للأكل والشرب ،كما نلاحظ أن الأرضة لا تحتاج إلى هذا الوقت الطويل لتأكل عصاه ،فلا بد من أن يكون للمسألة وجه آخر[ 2] ووقت محدود ينسجم مع طبيعة الأشياء ،والله العالم .