في هذه الآيات ،نلتقي بالنبي في شخصية الإنسان الهادىء هدوء الجبل الذي لا يزلزل مشاعره انفعال ،ولا يهزّ موقفه تحدٍّ ،ولا تثور أعصابه بفعل الضغوط ،بل ينطلق أمام ذلك بالكلمة الهادئة العميقة العاقلة النابضة بالحكمة الهادية ،التي تبرّد حرارة الانفعال المضادّ لتقوده إلى أجواء التفكير الهادىء المستقل .
ونلتقيبهفي شخصية الإنسانالرسول ،الذي يمنح الآخرين كل جهده ،وكل قلبه وعقله وحياته التي تتحرك في خدمة مصيرهم وسبيل هدايتهم ،من موقع الحب والإخلاص لله ،فهو يحب الناس المنفتحين على الرسل من خلال رسالتهم ،لذا فلا يطلب منهم عوضاً مادياً أو معنوياً ،لأنه يكتفي بما يمنحه الله له من أجرٍ ،في محبته ولطفه ورضاه ؛ونلتقي بالنبي الحاسم في قراره ،الواثق بالحق الكامن في كلماته وفي رسالته ،الرافض للباطل بكل قوّة ووضوح .
ونلتقي به في شخصية الإنسان الذي تتحرك إنسانيته في تواضع الرسول الذي تتجسد في أسلوبه روحية الإنسان الذي يطرح إمكانية ضلاله الذي لو حدث ،لكان هو الذي يتحمل مسؤوليته ،وإمكانية هداه الذي يرجع فيه الفضل إلى اللهوحدهمن خلال وحيه وهداه .
قل إنما أعظكم بواحدةٍ
{قُلْ} لهؤلاء الذين تجمعوا حولك وهم يصرخون إنك مجنون ،أو الذين يلاحقونك ،وهم يهتفون خلفك ويشيرون إليك بأنك مجنون ،أو الذين يتحدثون عنك في غيابك فيتهمونك بالجنون ،قل لهم كلمة العقل والحكمة ،وعلّمهم منهج التفكير وطريقة إدارة القضايا المتنازع عليها في الجوّ والأسلوب والحركة ،لأن مشكلتهم هي أنهم لا يحركون الأسلوب بطريقة هادئة ،ولا يحدّدون المنهج العقلاني الذي يعتمد على الموضوعية في مناقشة الأمور وإطلاق الأحكام ،وإلا ،فإنك لن تستطيع الوصول إلى أيّة نتيجةٍ حاسمةٍ معهم إذا أردت أن ترد الكلمة المعادية التي يطلقونها ضدك بشكلٍ مباشرٍ ،بل لا بد لك من أن تثير أمامهم مسألة المنهج ،لتقودهم إلى الطريقة المثلى في إثارة الأمور ومعالجة القضايا ومناقشة الظواهر ،والوصول إلى تكوين القناعات من خلال ذلك كله .
قل لهم:{إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} فهي كلمة واحدة تحدد لكم المنهج في التفكير ،{أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} وتنفصلوا عن الجوّ المحموم الضاغط على عقولكم ومشاعركم ومواقفكم ،والذي يُشعر كل واحدٍ منكم أن الدخان يملأ عقله وشعوره وحياته ،فلا يرى أمامه شيئاً ،فتفرقوا فرادى ،وليجلس كل واحد منكم مع نفسه ،ليخلو إلى عقله ويفكر ،أو تفرقوا مثنى مثنى ،ليجلس كل واحدٍ منكم إلى صاحبه ،ويفكر معه بحسابات هادئةٍ متزنةٍ ،ومناقشةٍ عاقلةٍ دقيقة في ظل حالةٍ فكريةٍ هادئةٍ ،تنطلق منها الشخصية الفردية المفكرة ،ليكون الفكر فكر المجموع من خلال فكر الجميع ،لا فكر المجموع من خلال انفعال المجموع ،{ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} ليقودكم التفكير إلى قراءة كلام هذا الإنسان في كلماته وأسلوبه ،ومضمونه الفكري ،وإلى دراسة خطواته العملية ،وعلاقاته بالناس ،وطريقته في التخطيط ،ولتستنتجوا من خلال ذلك كله ،أن هذا الإنسان هو في قمة التوازن العقلي والشعوري والعاطفي ،ولتعرفوا الحقيقة التي تفرض نفسها عليكم ،{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} لأن للجنون علاماته في الكلمة والحركة والأسلوب ،فلم يأتكم بشيءٍ يبتعد عن المعقول ،بل أتاكم بما أتى به النبيون من قبله في ما حدثكم عن الله وعن اليوم الآخر في ثوابه وعقابه ،وعما ينتظر الكافرين من عقاب شديد{إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أعده الله للكافرين والمشركين .
من أساليب الدعوة في الإسلام
وقد عالجتُ هذا المنهج الذي تتناوله هذه الآية في كتاب «أسلوب الدعوة في القرآن » ،بطريقةٍ وافيةٍ ،قد تحمل الكثير من اكتشاف أسلوب الدعوة في الإسلام ،مع ملاحظة التقاء هذا الأسلوب ببعض النظريات ،وقد رأيت من المناسب نقله في هذا التفسير ،إكمالاً للفائدة .
نحن الانمع هذه الآيةبإزاء موقف جديدٍ ،تتعرض له الدعوة في بداية انطلاقتها ،فتهمة الجنون التي أُلصقت بالرسول فاجأتها ،ووضعتها ،ليس أمام فكرة تصادم فكرتها ،لتواجهها في نطاق الصراع والجدل الفكري بالفكر القوي المتزن ،ولا أمام قوّةٍ ماديةٍ تصطدم بها في مجال الحرب والقتال ،لتعدّ لها ما تستطيع من قوّةٍ دفاعيةٍ ،بل وضعتها أمام عدوٍ يسبّ ويشتم ،ويتهم ويفتري ،ولا شيء غير ذلك .
ولا يملك الداعيةإزاء ذلك كلهأسلوباً مماثلاً لهذا الأسلوب ،لسبب بسيطٍ جداً ،وهو أن ذلك لا يتلاءم مع الدعوة ،كدينٍ يعيش في مستوى القيم ،ولا ينفع في مجال الصراع ،لأنه لا ينتج غير التهويش والتهويل .
إن الدعوة في مثل هذا الموقف ،هي أمام تهمةٍ ظالمةٍ طائشةٍ ،يحاول صانعوها أن يلصقوها بالنبي وهي تهمة الجنون .إنه مجنون ،إذاً هو لا يفقه ما يقول ،ولا يعقل ما يصنع ،وإنما هو الّلاشعور ينطلق في عملية إيحاءٍ مرتبكٍ ،لا يرتكز على واقعٍ ،ولا يستند على أساسٍ ،فما الذي تفعله الدعوة مع هذا الأسلوب ؟
إنها تعرفجيداًأن مستوى الجماهير لا ينخفض عن السطح إلا قليلاً ،فهو ليس بعيد القعركما يقولون،وتدركإلى جانب ذلكطبيعة الغوغائية التي تكمن في نفس كل واحدٍ منهم ،وجانب الانفعال والحماس الذي سرعان ما يطغى ويثور ،الأمر الذي يمهّد للتهمةأيّة تهمةٍأن تنتشر وتمتد إلى ذهن كل واحدٍ منهم من دون محاكمةٍ أو مناقشةٍ ،حتى لتنطلقبعد ذلكفي صورة تيارٍ قويّ يجرف المشاعر والأحاسيس ويحولها إلى ما يشبه الطوفان ،ولذا فإن الدعوة تدرك أنها تعيش في موقفٍ معقدٍ ،لا بد لهافي معالجتهمن الدقة والحذر ،فماذا فعلت ؟.
إنها لم تحاول أن تتجه إلى الجماهيرفي وضع خطابي أو إقناعيلتدفع التهمة عن صاحبها ورائدها الرسول الأعظم( ص ) وذلك بتقديم الأدلة والبراهين التي تدحض هذه التهمة ،وتدفع هذه الفرية ،لأن الجماهير لا تفهم لغة الحجج والبراهين في طوفان الحماس والاندفاع ،ولذا فهي لا تستمع إليها ولا تلقي بالاً لما تقول .إنها لم تحاول ذلك ولم ترد هي أن تقوم بدفع التهمة ،لأن صاحبهافي حسبان الجماهيرلا يعقل ما يقول ..!فكيف تقبل منه الحجة بالدفاع عن نفسه ؟بل حاولت أن تدل هؤلاء الناس على منهج البحث وطريق المعرفة ،وترجعهم إلى ذواتهم وفطرتهم ،ولكن ،بطريقةٍ لبقةٍ ،لا تشعر الآخرين بالغاية التي تنتهي إليها ،فقد دعتهم إلى أن يتفرقوا مثنى وفرادى ،وينفصلوا عن الجو المحموم العاصف الذي يعيشون فيه ،فيحاولوا دراسة هذه التهمة ،والتفكير فيها ،بعيداً عن المؤثرات العاطفية ،ليخلصوا إلى النتيجة الحاسمة التي يمليها عليهم تفكيرهم الخاص وملاحظتهم الشخصية لأفعال النبي( ص ) وأقواله وسيرته العامة في حياته بينهم ،فهي لم تقم بنفي الفكرة ابتداءً ،ولم تتخذ لنفسها صفة الناقد لهم والموجّه لأفعالهم ،بل حاولت دعوتهم إلى مناقشة الفكرة ،وتهيئة الجوّ الهادىء لأنفسهم للتفكير والمناقشة ،فهي ،في هذا الجو ،أشبه بالمتهم الذي لا يحاول أن يدّعي البراءة لنفسه أمام القضاة ،بل يكتفي بمحاولة إرشادهم إلى أن يراجعوا الوثائق والمستندات المتعلقة بقضيته ،ليحكموا عليهمن خلالهابما يوحي إليهم ضميرهم بعيداً عن أيّ تأثير ،وهو واثقفي الوقت نفسهأن النتيجة ستكون في صفه .
ونحسب أن مثل هذا الأسلوب لا ينفصل عن تأدية الغرض والوصول إلى الغاية ،من تراجع الآخرين عن غيّهم وضلالهم ،لأنه في الوقت الذي يقدم لهم المساعدة للوصول إلى الحقيقة ،يوحي إليهم بطريقةٍ خفية ،بقوّة الدعوة الفكرية وثقتها بنفسها ،الأمر الذي يبرز واضحاً في هذا الهدوء النفسي الذي تواجه به الدعوة خصومها ،وهذا البرود الحماسي الذي تلاقي به الدعوة عناصر الشغب والتشويه التي تقف في طريقها .
علاقة الآية بفكرة «العقل الجمعي »
أمّا لماذا حاولت الآية الكريمة أن تفرّقهم مَثْنَى وَفُرَادَى وتفصلهم عن الجوّ المحموم ،فيحب بعض الكتاب المعاصرين أن يرجعه إلى فكرة «العقل الجمعي » الذي بيّنه ووصفه الفيلسوف الاجتماعي «جوستاف لوبون » حيث قال: «إنه مهما كانت منزلة الأفراد الذين يكوّنون مجتمعاً من المجتمعات ،ومهما بلغوا من تشابه بعضهم لبعض ،ومهما اختلفوا من حيث الميول ومقدار الذكاء والمهنة ونظام الحياة ،فإن اجتماعهم معاً يمنحهم عقلاً جمعياً ،يجعلهم يفكرون ويشعرون ويعملون بطريقةٍ مخالفةٍ لطريقة تفكيرهم وشعورهم وعملهم ،لو كان بعضهم بمعزلٍ عن بعض .
وإن هناك عوامل ثلاثة أساسية ،تعمل على ظهور هذه الروح الجمعية ،أو العقل الجمعي ،هي:
أوّلاً: ما يسمّى بالشعور بعدم المسؤولية ،فالفرد في الحشد يلقي المسؤولية على الجمع نفسه ،ويتحررعادةًمن التعبير عن ميوله ورغباته وغرائزه ،فهو يختفي وراء الجمع ويطلق العنان لما يكنُّه في نفسه من الرغبات .والجمع بكثرة عدده مشجعٌ للأفراد على التعبير عن إحساساتهم في حماسةٍ ويولد عندهم قوةً تدفعهم في اتجاه معين .
ثانياً: ما يسمى بالعدوى النفسية ،ويقصد بهذه العدوى تلك الظاهرة النفسية التي تسري من فرد إلى فرد ،فتجعلهم يرددون الشيء نفسه ،وبشكل آلي .ولهذا هو يصفها بأنها عامل من عوامل «التخدير الاجتماعي » ،به ينسى الفرد نفسه في سبيل غايةٍ جمعيةٍ يعمل ويتحرك لتحقيقها .فالمعتقدات ،سياسية كانت أو دينيةً ،تسري بين الجماعات بالعدوى على الخصوص ،وعلى نسبة أفراد الجماعة يكون تأثير العدوى شديداً ولا يلبث المعتقَد الضعيف أن يصبح قوياً بعد أن يكتسب الأفراد الذين يعتنقونه صفة الجماعة .
والمعتقَد بعد أن ينتشر بالعدوى ،لا يلتفت إلى قيمته العقلية ،لأنه لما كانت العدوى تؤثر في دائرة الّلاشعور ،فإنه لا شأن للعقل فيها .وفي الغالب تكون العدوى ذات تأثيرٍ فيمن هم أرفع من في الجماعة ،ولذلك يجب أن لا نعجب من وجود علماء يدافعون عن أكثر المعتقدات شؤماً ومخالفةً للصواب .
ثالثاً: وهناك أخيراً عامل الإيحاء ،وهو حالة يفقد فيها الفرد الإحساس بوجوده الشخصي ،بحيث يضعف وجوده الذاتي ويصبح تابعاً لا سيداً ،يتحرك حسب ما يُملى عليه ،ويطيعطاعةً عمياءالزعيم المسيطر على الجمع الحاشد ،ويصبح ألعوبةً في يده ،ولهذا تطغى الروح الجمعية عند الفرد على شخصيته الواعية ،وعلى إرادته وأحكامه وأفعاله وتصرفاته .
ويقابل هذه العوامل صفات لا بد منها هي من المشخصات الضرورية للروح الجمعية والعقل الجمعي وهي:
أولاً: الاندفاع والانسياق بدون تردد .
ثانياً: المبالغة في فهم الحقائق .
ثالثاً: عدم الثبات وسرعة التحول من رأي لرأيٍ ومن فعلٍ لفعلٍ .
ثم يتابع هذا الكاتب كلامه فيقول: «بعد كل هذا الشرح النفسي للعقل الجمعي ،قد بان لنا الحكمة في اشتراط الآية أن يكون التفكير بين اثنين اثنين ،أو واحداً واحداً ،خوف القضاء على الحقيقة في الزحام ،وخفاء وجه صواب الرأي في الاجتماع »[ 1] .
التعليق على فكرة «العقل الجمعي »
أمَّا تعليقنا على ذلك ،فيرتكز على نقطةٍ أساسيةٍ واحدةٍ ،هي أننا لا نستطيع إخضاع القرآن الكريم لمصطلحات وأفكار لا تزال موضع نقاش بين الباحثين ،لأن ذلك يؤدي بنا إلى التراجع عن هذا التفسير عند تبدل هذه النظرية ،وهكذا دواليك في عملية تبديلٍ وتغيير .ولا يخفى ما في ذلك من الإساءة لقدسية القرآن ومكانته ،ولهذا فنحن لا نوافق بأيِّ وجهٍ من الوجوه على المنهج الذي يحاول الكثيرون من كتّابنا الإسلاميين أن ينهجوه في تفسير القرآن بالنظريات العلمية والاجتماعية والنفسية وغيرها .
وعلى ضوء ذلك ،فلا نستطيع أن نقر الكاتب على ما ذهب إليه من ارتكاز هذه الآية في مضمونها على نظرية ( العقل الجمعي ) التي تنبه لها «جوستاف لوبون » ،لأن هذه الفكرة ليست مما أجمع عليه علماء النفس[ 2] .
وانطلاقاً من ذلك ،فلا بد لنا من أن نرجع بالآية إلى واقع القضية بعيداً عن المصطلحات والنظريات ،وهي «أن الجماهير لا تتصف بمقتضى الحكمة التي يتصف بها الأفراد التي تتكون منهم الجمهرة »[ 3] ،ولذلك أمرهم الله سبحانه وتعالى أن يقوموا مَثْنَى وَفُرَادَى ،مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارىء ولا تتلبث لتتابع الحجة في هدوء ،وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيصٍ هادىء عميق .