وهذا رجلنموذج ،يمثل الإنسان الذي يخرج من قلب مجتمعه ،ليدخل في مواجهة معه ،انطلاقاً من موقف الحق أمام الباطل الذي يتبناه المجتمع كله ،ومن موقف المساندة للمجموعة الرسالية الصغيرة الداعية إلى الله ،في مقابل الجماهير الغفيرة المشركة به أو المنكرة له .
ومن خلال دراستنا لشخصيته ،ولروح القوّة التي تعيش في داخل عقله وشعوره ،ولإشراقة الإيمان التي تشرق في روحه منيرةً كل المواقع ،نستطيع أن نخلُص إلى الفكرة التي لا تعتبر فساد البيئة التي يعيش فيها الفرد أساساً حتميّاً لفساده الذاتي ،بحيث تمثل الضغط الذي لا يستطيع أن يواجهه أو يثبت معه ،بل يمكن له أن يتمرد على واقع البيئة الفكري والعملي ،عندما يملك عقله ووجدانه ،ويحمي شعوره من الاهتزاز العاطفي والانفعالي بما حوله ،أو بمن حوله ،ويجلس مع نفسه جلسةً هادئةً ،في أجواء الهدوء والحياد الفكري .ليكتشف في المسألة الفكرية شيئاً غير ما يفكر به الآخرون ،ويجد في المسألة العملية خطاً غير الخط الذي يتحرك بانسجام مع البيئة المنحرفة الضاغطة .
وعلى المستوى الواقعي ،لا بد من الاعتراف بصعوبة الوقوف أمام ضغط البيئة في انحرافها الفكري والعملي ،لكن تحدِّي هذا الضغط ليس شيئاً مستحيلاً ،ما يجعل القضية خاضعةً للضغط المضادّ الذي يستنفر فيه الإنسان طاقاته الروحية والفكرية والعملية ،ما يسمح بالمواجهة بطريقةٍ متوازنةٍ حاسمةٍ ،لا سيما حين يتم إبراز النماذج الواقعية المتحركة في أكثر من موقعٍ من مواقع ساحات الصراع ،كما في مثل هذا الرجل النموذج ،الذي برز فجأةً من بين القوم ليرفع صوته بنداءٍ قويٍّ حاسمٍ .
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} ويسرع في المشي ليعلن موقفه الذي كان يخفيه عن قومه ،أو كان لا يجد ضرورةً لإعلانه ،انتظاراً لما قد يحدث من إيمان قومه بهؤلاء الرسل ،ولكنه الآن يجد المسألة قد بلغت حدّاً كبيراً من الخطورة ،فلم يرتفع من بينهم أيُّ صوتٍ مؤمنٍ ما يدلّ على سيطرة الكفر على الموقف كله ،بحيث لو كان هناك مؤمنٌ في الخفاء ،فإنه قد يخاف أمام هذه السيطرة أن يعلن موقفه ،ولذا رأى من واجبه أن يقول كلمة الإيمان مقابل كلمات الكفر ،ليؤكد للإيمان موقفه ،وليفسح المجال للمترددين أن يحسموا أمرهم إلى جانب الرسل ،وليخرق الإجماع الكافر ولو بصوتٍ واحدٍ .
{قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ} الذين يدعونكم إلى توحيد الله وعبادته والسير على خط هداه ،