{قَالُواْ طَائِرُكُم} الذي تعتبرونه رمزاً للتشاؤم ،وقد كان يغلب عليهم التشاؤم بالطير فغلب الاسم على الفكرة{مَّعَكُمْ} فإن الشؤم الذي تتحسبون له وتخافون منه وتعملون على طرده من ساحتكم ،هو في عمق هذه الساحة ،وسببه ما تحمله أفكاركم من الكفر والشرك ،وما تعيشه مشاعركم من الحقد والبغضاء ،وما تتحرك به أوضاعكم من الانحراف والكذب والرياء ،فهذه الصفات هي التي تربك حياتكم وتمنعها من الهدوء والصفاء وتبعدها عن خط الاستقامة والرحمة والمحبة والوداعة والسلام ،وتجعلكم في غفلةٍ عن الحقيقة الإلهية التي تفتح الحقيقة الإنسانية على الأفق الرحب الذي يشرق فيه الخير والحق والعدل والأمان .
{أَئن ذُكِّرْتُم} بالحق المتمثل بوجود الله وتوحيده ومنهجه السليم في الحياة ،أعرضتم عنه وبقيتم تترددون في أجواء الغفلة المطبقة المستولية على عقولكم ومشاعركم ومواقفكم في الحياة ،{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} لا تعيشون في خط التوازن الذي يحسب حساب الأشياء بدقّة ،ويحاكمها بعمق ،ويتحرك في اتجاهها باستقامة ،بل تتجاوزونبفعل شرككم وضلالكمالحدود المعقولة التي وضعها الله أمام الإنسان لتكون حاجزاً بينه وبين الهلاك الروحي والعملي ،فتمتدون في معصية الله والتمرّد عليه من دون رجوعٍ إلى العقل والوجدان .
روح القوّة في شخصية الرسل
ونلاحظ من خلال هذا السجال ،روح القوّة في شخصية هؤلاء الرسل الذين لم يشعروا بالضعف عندما شعروا بقلة عددهم أمام الجماهير الكبيرة التي يمثلها هؤلاء الطغاة المترفون من وجهاء الناس وقادتهم ،فقوتهم مستمدة من إيمانهم وعلاقتهم بربهم وشعورهم بأن هؤلاء لا يتحركون فعلياً من مواقع قوّة ،بل من مواقع ضعفٍ ،وسبب ضعفهم يعود إلى تخوفهم من أن تقتنع الجماهير الطيبة البسيطة بالحقيقة من أقرب طريق ،بعيداً عن كل عوامل التعقيد والتكلف ،ولهذا فإنهم لا يريدون للدعاة أن يذكّروا لأنهم يخافون على الناس أن يتذكروا ،بل ربما تصل المسألة إلى المستوى الأخطر عندما يشعرون باهتزاز قناعاتهم في داخل أنفسهم من خلال ما يسمعونه من كلمات الحق ،ولهذا فإنهم يريدون تفادي سقوطهم أمام أنفسهم التي قد تستجيب للرسل من حيث لا يشعرون .
وهذا ما ينبغي للدعاة أن يستوحوه من هذه القصةالموقف ،ليدرسوا في كل ساحات الصراع التي تخوضها حركة الدعوة ،نقاط الضعف البارزة والخفية لدى القوى المضادة كما يدرسون نقاط القوّة الكامنة في داخل أنفسهم ،وفي مواقعهم الفكرية والعملية ،ليتوازن عندهم الموقف ،ما يسهِّل اندفاعهم بقوّة في خط المواجهة بالكلمة القوية والأسلوب الحاسم ،والفكرة الفاعلة الثابتة ،وليس غير هذا السبيل يوصل إلى عملية صنع القوة .