{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} فليس من العدل أن يفكر بهذه الطريقة التي تمثل الجشع الذاتي ،والأنانية الطامعة ،والاستضعاف الظالم ،إذ كيف يطلب إضافة نعجة أخيه إلى نعاجه ،ولا يتركها له ليستفيد منها في قضاء حاجاته الغذائية ،وكيف يضغط الغنيّ على الفقير ،ويفرض سلطته عليه ،ليسلبه ما عنده ...إن هذا هو الظلم بعينه .
{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ} أي الشركاء ،وقد يلاحظ أن القصة لا توحي بشراكةٍ بينهما ،فيمكن أن يكون المراد من الكلمة المعنى الذي يقترب من ذلك ولو في الشكل ،بملاحظة المشاركة في الرعي ،أو في المكان ،أو في الانتفاع أو نحو ذلك{لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بفعل ما يملكه من عناصر القوّة الضاغطة التي تدفعه إلى العدوان عليه ،{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} فهؤلاء هم الذين يمنعهم إيمانهم من البغي انطلاقاً من العمق الروحي الذي يدفعهم إلى التحرك في خط الصلاح .
وهكذا أطلق داود الحكم ،وتدخّل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهراً من مظاهر الانحراف الاجتماعي الذي يتعلق بسلب حقوق الناس ،ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون ،إذ كان عليه أن يدرس الدعوى من خلال الاستماع إلى حجة المدّعي ودفاع المدّعى عليه ،لأن مسألة الغنى والفقر ،والكثرة والقلة ،لا يصلحان أساساً للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئاً في دائرة الحق المختلف فيه .
ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلى الجانب الضعيف في الدعوى ،لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة ،بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة لغياب أية مشاكل يعاني منها ،ما يجعل من الحكم على الضعيف تعقيداً لمشكلته ،بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه ،هذا بالإضافة إلى أنّ طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس ،تستبعد أن يكون هذا الفقير معتدياً على الغني ،لا سيّما في هذا الشيء البسيط ،بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتدياً على الفقير من موقع قوّته ،كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلى الضعفاء .
{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي أوقعناه في الفتنة ،أي في البلاء والاختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرّضاً للخطأ لوقوعه تحت ضغط الأجواء المثيرة المحيطة به ،وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة ،إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير ،وخطئه في عدم الاستماع إلى وجهة النظر الأخرى ،{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} أي رجع إلى الله تائباً ومخلصاً .