{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} الخطأ الذي لم يؤد إلى نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ،ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الواقع ،{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى} وهي المنزلة والحظوة{وَحُسْنَ مَآبٍ} في ما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه .
قصة داود أمام علامات الاستفهام:
ومن المفيد أمام هذه القصة إثارة عدة نقاط:
النقطة الأولى: هل هذان الخصمان من الملائكة كما يتحدث بعض المفسرين أو من غيرهم ؟
قد يُطرح الاحتمال الأول من خلال ظهور خصوصيات القصة في ذلك ،كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عاديٍّ بحيث أفزعوه ،مما لا يعهد حصوله من البشر ،وكذا تصوّره بأن ما حدث كان فتنة من الله له لا واقعة عاديةً ،ما قد يوحي بأنه لم يجدهما أمامه بعد الحكم ،فقد غابا عنه بشكلٍ غير طبيعيّ ،وقد نفهم ذلك من قوله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} الظاهر في أن الله ابتلاه لينبهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ،كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة ،وقد تمثلوا له في صورة رجالٍ من الإنس .
وقد لا يرى البعض في ذلك كله دليلاً على ما تقدم ،فيعتبر ما حدث شيئاً عادياً قد يحدث لأيّ واحد من الناس .
النقطة الثانية: كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء ،أمام تصريح الآية بالاستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع أن يتجاوزها بنجاح ،فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه ؟
ربما تطرح القضية ،على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة ،فإنها لا تكون تكليفاً حقيقياً ،بل هي قضيةٌ تمثيليةٌ على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية على صعيد ممارسته الحكم بين الناس ،تماماً كما هي قضية آدم التي كانت قضيّةً امتحانية لا تكليفاً شرعيّاً ،فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح ،وبذلك يكون الاستغفار مجرد تعبير عن الانفتاح على الله والمحبة له ،والخضوع له في ما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة ،لا من واقعها ،وأمّا إذا كان الخصمان من البشر ،فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاءً فعليّاً حاسماً بل كان قضاءً تقديريّاً ،بحيث يكون قوله:{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ،بتقدير قوله: لو لم يأت خصمك بحجةٍ بيّنةٍ .
ولكن هذا الطرح لا يمنع صدور الخطأ منه ،فإنه لم ينتبه إلى أن الخصمين ملكان ،بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر ،وبذلك فلم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدث متحدّث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه ،أو أنها لم تكن واقعيةً بل كانت تمثيليّةً ،بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم .
وفي هذا الإطار لا بد من الاعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوّة ،لاسيّما إذا كانت الأمور جاريةً في بداياتها للإيقاع به في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القويّة التي تمنع عن الخطأ في المستقبل .
وقد أكّد الإمام الرضا( ع ) ذلك بما روي عنه في عيون أخبار الرضا ،قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود( ع ): يابن رسول الله ما كانت خطيئته ؟فقال:"ويحك إن داود( ع ) إنما ظن أنه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه ،فبعث الله إليه عزّ وجل الملكين فتسوّرا المحراب ،فقال:{خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي في الْخِطَابِ} فعجّل داود على المدعى عليه ،فقال:{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ولم يسأل المدّعي البينة على ذلك ،ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول ؟فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه »
وقد ذكرنا في هذا التفسير أن علينا أخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة ،لا من أفكارٍ خارجةٍ عنه ،مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة .
النقطة الثالثة: لقد تحدثت التوراة عن قصة داود( ع ) بطريقةٍ مثيرةٍ تتنافى مع أخلاقيته وتصوره بصورة رجل لا يتورع عن ارتكاب الجريمة في سبيل شهواته .
فقد جاء فيها ما ملخصهفي ما رواه صاحب تفسير الميزان: «وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك ،فرأى من على السطح امرأة تستحم ،وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ،فأرسل داود ،وسأل عن المرأة فقيل: إنها بتشبع امرأة أوريا الحثي ،فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت عليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود أنها حبلى .
وكان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون ،فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه ،ولما أتاه وأقام عنده كتب مكتوباً إلى يوآب وأرسله بيد أوريا وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك .
فلما سمعت امرأة أوريا بأنه قد مات ندبت بعلها ،ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابناً ،وأما الأمر الذي فعله داود ،فقبح في عين الرب .
فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه ،وقال له: كان رجلان في مدينة واحدةٍ ،واحد منهما غنيّ ،والآخر فقير ،وكان للغني غنم وبقر كثيرة جداً ،وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيىء للضيف الذي جاء إليه ،فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه ،فحمي غضب داود على الرجل جداً ،وقال لناثان: حي هو الرب ،إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك وترد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق .
فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الرب ،ويقول: سأقيم عليك الشرّ من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس جزاءً لما فعلت بأوريا وامرأته .
فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الرب: فقال ناثان لداود: الرب أيضاً قد نقل عنك خطيئتك ،لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت ،فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت امرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان » .
وقد جاء في أن الإمام الرضا( ع ) قال لابن الجهم:"وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه ؟قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور ،فقطع داود صلاته ،وقام يأخذ الطير إلى الدار ،فخرج في إثره ،فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه ،فسقط الطير في دار أوريا بن حيان .
فاطلع داود في إثر الطير ،فإذا بامرأة أوريا تغتسل ،فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته ،فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت ،فقدم فظفر أوريا بالمشركين ،فصعب ذلك على داود ،فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدم فقُتل أوريا وتزوج داود بامرأته .
قال: فضرب الرضا( ع ) يده على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ،لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون في صلاته حتى خرج في إثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل ...
فقال: يا بن رسول الله فما قصته مع أوريا ؟قال الرضا( ع ): إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً ،فأوّل من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود( ع ) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل أوريا ".
وهكذا نلاحظ في رواية التوراة المزعومة أن بعض المفسرين درجوا على إخضاع مسألة الخصمين لهذه القصة لتكون الخصومة التمثيلية بمثابة تنبيه لداود على ما فعله في علاقته بهذه المرأة بمشابهة القصة الواقعه ،وقد حفلت كتب التفسير بالكثير من هذه الإسرائيليات المخالفة لأبسط قواعد الأخلاق في حياة النبي داود مما لا يتناسب مع الصفات التي ذكرها القرآن ،من جهة روحيته العالية ،وتسبيحه لله وكونه أوّاباً ،وإيتائه الحكمة وفصل الخطاب .