{يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} في ما أعطاك الله من موقع الخلافة الشرعية في الأرض من خلال صفتك الرسالية التي تبلغ فيها الرسالة للناس وتحرّكها في حياتهم ،وتجسدها واقعاً حيّاً في صفاتك الشخصية التي تتمثل فيها المعاني الروحية حتى ترسّخ قيم الرسالة في حياة الناس والالتزام الشرعي الأخلاقي بكل حلالها وحرامها ،لتكون قدوةً لهم .وليست هذه الخلافة مجرّد حالةٍ تكريميةٍ ،أو موقعٍ عمليٍّ في حركة الحياة العامة بعيداً عن موقع السلطة الحاكمة ،بل هي حركةٌ في الحكم والسلطة العادلة .
{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} لأن موقعك هو موقع إقامة الحق في الفكر والواقع على مستوى الدعوة ،وعلى مستوى الحكم في الخلافات التي تحدث بين الناس ،وعلى صعيد ما يمارسونه من سلوكهم العام والخاص ،{وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لأن الخليفة الرسالي هو الذي يجعل هواه العملي تبعاً لرسالته ،فلا حرية له في أن يكون له هواه الخاص المنطلق من مزاجه الذاتي وعلاقاته الشخصية ،وملاحظاته الخاصة الحادثة من انفعالاته وعواطفه ،لأنه مسؤولٌ عن إدارة شؤون الناس العامة وعن الوصول إلى القول الفصل في قضاياهم العملية في الحياة ،مما يفرض فيه أن يعيش التجرد من عاطفته وأن يكون موضوعياً في نظرته إلى الأمور ،لئلا ينحرف عن سبيل الله ،فيؤثر تأثيراً سلبياً على تصرفاته الخاصة في التزامه الشرعي الأخلاقي ،وعلى حركة العدل في الحكم بين الناس .
{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} في اتباعهم الهوى ،وانحرافهم عن خط التقوى الرسالية ،{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ} جزاءً على أعمالهم{بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ} لأن الذاكر للقيامة الذي يعيش هاجس الحساب بين يدي الله بما يترتب عليه من ثواب الله وعقابه لا يتجرأ على الله بالمعصية ،والتمرد على نهجه الذي أراد لعباده أن يتبعوه .
وقد أثار البعض الحديث في تفسير الآية من ناحية علاقتها بعصمة النبي بأنها واردة في مورد تنبيه الآخرين على المبدأ من حيث الحكم بالحقّ وعدم اتّباع الهوى ،من الناس الذين يتحملون مسؤولية الخلافة ممن يمكن أن ينحرفوا عن الخط المستقيم ،لعدم عصمتهم الذاتية ،أمَّا داود وأمثاله من الأنبياء ،فهم المعصومون عن الانحراف ،فلا يحكمون إلاّ بالحق ،ولا يتّبعون الباطل .
ولكننا نلاحظ أن عصمة الأنبياء ليست حالةً تكوينية مخلوقة مع النبي في تكوينه الذاتي ،بل هي حالةٌ اختياريّةٌ تنبع من توجيه الله له في حركة إيمانية وفي أوامر الله ونواهيه التي تحدّد له مسار الخط المستقيم في ما يأخذ به أو يدعه وفي لطف الله به في ما يقوّيه من ملكاته الروحية والعملية ،فهو عبدٌ مأمورٌ كبقية العباد ،ما يجعله واقعاً تحت سلطة التكليف الذي تتحرك العصمة في دائرته ،فهو معصومٌ عن معصية أوامر الله ونواهيه ،وعن الانحراف عن خطّه المستقيم .وهذا ما نلاحظه في الأسلوب القرآني الذي يخاطب الأنبياء بما يخاطب به الناس ويهددهم على الانحراف في حال حدوثه بما يهدّد به الآخرين .