قوله تعالى:{يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} .قوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرض} ،قد بينا الحكم الذي دل عليه ،في سورة البقرة ،في الكلام على قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} [ البقرة: 30] الآية .وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قد أمر نبيه داود فيه ،بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى ،وأن اتباع الهوى ،علة للضلال عن سبيل الله ،لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية .
وقد تقرر في الأصول ،في مسلك الإيماء والتنبيه ،أن الفاء من حروف التعليل كقوله: سهى فسجد ،وسرق فقطعت يده ،أو لعلة السهو في الأول ،ولعلة السرقة في الثاني ،وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى ،فأضله ربنا عن سبيل الله ،في قوله تعالى بعده يليه:{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ} .
ومعلوم أن نبي الله داود ،لا يحكم بغير الحق ،ولا يتبع الهوى ،فيضله عن سبيل الله ،ولكن الله تعالى ،يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ،وينهاهم ،ليشرع لأممهم .
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم ،بمثل ما أمر به داود ،ونهاه أيضاً عن مثل ذلك ،في آيات من كتاب الله كقوله تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} [ المائدة: 42] .وقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [ المائدة: 49] وكقوله تعالى:{وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [ الأحزاب: 1 و48] وقوله تعالى:{وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً} [ الإنسان: 24] وقوله تعالى:{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [ الكهف: 28] الآية .
وقد قدمنا الكلام على هذا ،في سورة بني إسرائيل ،في الكلام على قوله تعالى:{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إلها ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [ الإسراء: 22] .
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب ،والمراد بذلك الخطاب غيره يقيناً قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [ الإسراء: 23] الآية ،ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته ،وأن أمه ماتت وهو صغير ،ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [ الإسراء: 23] ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما ،ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان .
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [ الإسراء: 23 -24] الآية: إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته ،ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم ،وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب .إياك أعني واسمعي يا جارة ،وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة ،وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله:
يا أخت خير البدو والحضاره *** كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره *** إياك أعني واسمعي يا جاره
وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة ،وقول بعض أهل العلم إن الخطاب في قوله:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [ الإسراء: 23] الآية ،هو الخطاب بصيغة المفرد ،الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه .كقول طرفة بن العبد في معلقته:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك ،وعلى هذا فلا دليل في الآية ،غير صحيح ،وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه .فالاستدلال بالآية ،استدلال قرآني صحيح ،والقرينة القرآنية المذكورة ،هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم ،التي أولها{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} [ الإسراء: 39] .ما هو صريح ،في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ،لا عموم كل من يصح منه الخطاب ،وذلك في قوله تعالى:{ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلها ءَاخَرَ فَتُلْقَى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [ الإسراء: 39] .