قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً}: قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [ الحجر: 85] وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون .في الكلام على قوله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [ المؤمنون: 115] و قوله تعالى:{ذلك ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ} .
الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي ،ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلاً هو ظن الذين كفروا بنا ،والنفي في قوله ما خلقنا ،منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا ،لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما: ليس خلقه للسماوات والأرض ،بل هو ثابت ،وإنما المنفي بها ،هو كونه باطلاً ،فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة ،لأن النفي منصب عليها هي خاصة ،والكلام لا يصح دونها .والكلام في هذا معلوم في محله ،ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلاً نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون ،لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى .
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [ المؤمنون: 115] .ثم نزه نفسه ،عن كونه خلقهم عبثاً ،بقوله تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [ المؤمنون: 116] أي تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثاً .
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك ،ففي قوله تعالى:{إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولى الألباب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ آل عمران: 190- 191] ،فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيهاً لك ،عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلاً .فقولهم سبحانك تنزيه له ،كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [ المؤمنون: 116] الآية .
وقوله تعالى في هذه الآية:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ} يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا ،فله النار .
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أراده وجعله من الخاسرين ،وجعل النار مثواه .وذلك في قوله تعالى:{وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُون وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِين َفَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [ فصلت: 22-23-24] الآية .
وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:{إِنَّ هذا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ} [ الإسراء: 9] ،وبينا هناك أن الفعل نوعان ،أحدهما الفعل الحقيقي ،والثاني الفعل الصناعي ،أما الفعل الحقيقي ،فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر .
وأما الفعل الصناعي ،فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي ،والفعل المضارع ،وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع .ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين ،عن مصدر وزمن ،كما أشار له في الخلاصة بقوله:
المصدر اسم ما سوى الزمان من *** مدلولي الفعل كأمن من أمن
وعند جماعات من البلاغيين ،أنه ينحل عن مصدر ،وزمن ونسبة ،وهو الأقرب ،كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية ،وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر ،والزمن كامنان في الفعل الصناعي فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي .
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل ،قوله هنا{ذلك ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ،فإن المصدر الذي هو الخلق ،كامن في الفعل الصناعي ،الذي هو الفعل الماضي في قوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلك} أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا .
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي ،قوله تعالى:{وَنُفِخَ في الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ} [ ق: 20] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد .
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى:{اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [ المائدة: 8] فقوله: هو ،أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا ،كما تقدم إيضاحه .