على أيّة حال ،فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى ،كما توضّحه الآية التالية ( فغفرنا له ذلك ) .وإنّ له منزلة رفيعة عند الله ( وإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب ) .
«زلفى » تعني المنزلة ( والقرب عند الله ) و ( حسن مآب ) إشارة إلى الجنّة ونعم الآخرة .
بحوث
1ما هي حقيقة وقائع قصّة داود ؟
الذي وضّحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أنّ شخصين تسوّرا جدران محراب داود ( عليه السلام ) ليحتكما عنده ،وأنّه فزع عند رؤيتهما ،ثمّ استمع إلى أقوال المشتكي الذي قال: إنّ لأخيه ( 99 ) نعجة وله نعجة واحدة ،وإنّ أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه ،فأعطى داود ( عليه السلام ) الحقّ للمشتكي ،واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلماً وطغياناً ،ثمّ ندم على حكمه هذا ،وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويغفر له ،فعفا الله عنه وغفر له .
وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضاً: الاُولى مسألة الامتحان ،والثانية مسألة الاستغفار .
القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين ،إلاّ أنّ الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول: إنّ داود كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء ،وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه ،فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية ،كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف ،إذ تسوّرا جدران محرابه ،وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني ،رغم أنّ حكمه كان عادلا .
ورغم أنّه انتبه بسرعة إلى زلّته ،وأصلحها قبل مضيّ الوقت ،ولكن مهما كان فإنّ العمل الذي قام به لا يليق بمقام النبوّة الرفيع ،ولهذا فإنّ استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى ،وإنّ الله شمله بعفوه ومغفرته .
والشاهد على هذا التّفسير إضافة إلى ما ذكرناه قبل قليلهو الآية التي تأتي مباشرةً بعد تلك الآيات ،والتي تخاطب داود ( عليه السلام ): ( يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله ) .وهذه الآية تبيّن أنّ زلّة داود كانت في كيفية قضائه وحكمه .
وبهذا الشكل فإنّ الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئاً يقلّل من شأن ومقام هذا النّبي الكبير .
2التوراة والقصص الخرافية بشأن داود
الآن نتصفّح كتاب التوراة لنشاهد ماذا ذكر فيه عن هذه الواقعة ،لنعثر على الأساس الذي اعتمد عليه بعض المفسّرين الجهلة وغير المطّلعين في تفسير هذه الآيات .
جاء في «التوراة » وفي الكتاب الثاني «اشموئيل » الإصحاح الحادي عشر من الجملة الثانية وحتّى السابعة والعشرين:
«وكان في وقت المساء ،أنّ داود قام عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك ،فرأى من على السطح امرأة تستحمّ وكانت المرأة جميلة المنظر جدّاً .فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل: إنّها ( بتشبع ) بنت ( اليعام ) وزوجة ( أوريّا الحِتّي ) .
فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت عليه ،فاضطجع معها وهي طاهرة من طمثها ،ثمّ رجعت إلى بيتها ،وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود بأنّها حبلى .
وبعد علمه بحمل ( بتشبع ) بعث داود برسالة إلى ( يوآب ) طلب منه فيها أن يبعث ( أوريّا ) إليه ،فبعث ( يوآب ) ( أوريّا ) إليه ،وفور وصوله إلى قصر داود ،استفسر منه عن سلامة ( يوآب ) وسلامة الجيش وعن سير المعارك .
وهنا أمر داود ( أوريّا ) بأن يذهب إلى بيته ويغسل رجليه ،فخرج أوريّا من قصر داود ،وبعث داود خلفه أنواعاً من الطعام ،إلاّ أنّ أوريّا نام عند باب قصر داود مع بقيّة عبيد سيّده داود ولم يذهب إلى بيته ،وعندما علم داود أنّ أوريّا لم يذهب إلى بيته ،قال داود لأوريّا: ألم تكن قد عدت من السفر ؟فلماذا لا تذهب إلى بيتك ؟فقال لداود: إنّ الصندوق وإسرائيل ويهودا وسيّدي ( يوآب ) وعبيد سيّدي يعيشون تحت الخيام في الصحراء ؟فهل يصحّ أن أذهب إلى بيتي لآكل وأشرب وأنام فيه ؟أقسم بحياتك أنّي لا أفعل ذلك .
وفي الصباح بعث داود برسالة إلى ( يوآب ) بيد ( أوريّا ) وكتب في الرسالة يقول: اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ،ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك .
فلمّا سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد مات ندبت بعلها ،ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت له امرأة ،وأمّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الربّ » .
خلاصة هذه القصّة إلى هنا تكون كالآتي: في إحدى الأيّام صعد داود إلى سطح القصر فوقعت عيناه على البيت المجاور فرأى امرأة عارية تغتسل ،فأحبّها ،وتمكّن بإحدى الطرق من جلبها إلى بيته ،فاضطجع معها فحملت منه .
وزوج هذه المرأة كان أحد الضبّاط المشهورين في جيش داود وكان طاهراً نقيّاً ،قتله داود ( نعوذ بالله من هذا الكلام ) بمؤامرة جبانة عندما بعثه إلى منطقة خطرة جدّاً في ساحة الحرب ،ثمّ تزوّج داود زوجته .
والآن نواصل سرد بقيّة القصّة على لسان التوراة الحالي إذ جاء في الإصحاح الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني «أنّ الربّ أرسل ( ناثان ) أحد أنبياء بني إسرائيل ومستشار داود في نفس الوقت ،وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة ،واحد منهما غني والآخر فقير ،وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدّاً ،وأمّا الفقير فلم يكن له شيء إلاّ نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها ،فجاء ضيف إلى الرجل الغني فأبى أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيء للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه .
فحمي غضب داود ،وقال لناثان ،أقسم بالربّ أنّ الشخص الذي ارتكب هذا العمل يستحقّ القتل ،وعليه أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف .وهنا قال ناثان لداود: إنّ ذلك الرجل هو أنت !
فانتبه داود للعمل غير الصحيح الذي قام به ،فدعا الله ليتوب عليه ،فتاب الله عليه ،وأنزل في نفس الوقت ابتلاءات كبيرة على داود » .
هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجلّ القلم عن ذكرها ،لهذا نصرف النظر عنها .
وفي هذا الجزء من القصّة التي استعرضتها التوراة يمكن للمتتبّع ملاحظة ما يلي:
1لم يأت أحد متظلّماً وشاكياً إلى داود ،وإنّما جاءه أحد أنبياء بني إسرائيل ،الذي هو مستشار داود في نفس الوقت ،وذكر له قصّة يستهدف منها وعظ داود ،والقصّة هي بشأن شخصين الأوّل غني والثاني فقير ،الغني يملك أعداداً كبيرة من الغنم والبقر ،أمّا الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة ،والغني أخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأها لضيفه .
إلى هذا المقدار من القصّة لا يوجد أي تطرّق لتسوّر جدران المحراب وفزع داود وتخاصم الشخصين عنده ،إضافةً إلى طلب العفو والمغفرة .
2داود ( عليه السلام ) اعتبر الغني طاغية ويستحقّ القتل لماذا يقتل من أجل نعجة واحدة ) ؟!
3لماذا تسرّع داود ( عليه السلام ) في إصدار الحكم ،إذ قال: يجب على الغني أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف ؟
4داود يعترف بذنبه مع زوجة أوريّا .
5لماذا يعفو الله عزّ وجلّ عنه وبهذه السهولة ؟!
6الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داود من الأفضل عدم ذكرها هنا .
7هذه المرأة ( مع ماضيها المشهور ) هي اُمّ سليمان ( عليه السلام ) !
رغم أنّ نقل مثل هذه القصص مؤلم حقّاً ،ولكن ما العمل ،إذ أنّ بعض الجهلة غير المطّلعين من المتأثّرين بالروايات الإسرائيليّة ،أساؤوا إلى تفسير القرآن الكريم الطاهر ،بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه ،ولا يوجد أمامنا سبيل إلاّ ذكر أجزاء من تلك القصص الفاضحة لردّها .
والآن نسأل:
1هل يمكن اتهام نبي مدحه الباري عزّ وجلّ في قرآنه الكريم بعشر صفات عظيمة ،ودعا نبيّنا الأكرم محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أن يستلهم من سيرته ،هل يمكن اتهامه بتلك التهم .
2هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية: ( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض ) .
3إذا ارتكب شخص عاديوليس أحد الأنبياءمثل هذا العمل الإجرامي للاعتداء على زوجة ضابط وفيّ وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة ،بماذا سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته ؟فالفاسق يتنزّه عن هذا العمل الشنيع ،فكيف بنبي الله داود ؟
وممّا يجدر ذكره أنّ التوراة لا تعتبر داود نبيّاً ،وإنّما تعتبره ملكاً عادلا له مكانة مرموقة ،وأنّه مشيّد المعبد الكبير لبني إسرائيل .
4الطريف في الأمر أنّ كتاب ( مزامير داود ) هو أحد كتب التوراة ،وقد جمعت فيه مناجات وأحاديث داود ،فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا الإنسان في طيّات الكتب السماوية ؟
5لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والإدراك ،لأعترف بأنّ قصص التوراة المحرّفة حالياً ما هي إلاّ خرافات ،وأنّ أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطّلعين صاغوا مثل هذه الخرافات ،فكيف يمكن أن تكون هذه الخرافات معياراً للبحث ؟
نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال خلوّه من هذه الخرافات .
3الأحاديث الإسلامية وقصّة داود
( عليه السلام )
الرّوايات والأحاديث الإسلاميّة كذّبت بشدّة تلك القصص الخرافية والقبيحة الواردة في التوراة .
ومن جملة تلك الأحاديث ،ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )يقول فيه: «لا اُوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريّا إلاّ جلدته حدّين حدّاً للنبوّة وحدّاً للإسلام » .
لماذا ،لأنّ المزاعم المذكورة تتّهم من جهة إنساناً مؤمناً بارتكاب عمل محرّم ،ومن جهة أخرى تنتهك حرمة مقام النبوّة ،ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري عليه( عليه السلام ) مرّتين ( كلّ مرّة 80 سوطاً ) .
كما ورد حديث آخر لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعطي نفس المعنى ،جاء فيه «من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مئة وستّين » .
وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق في كتاب ( الأمالي ) عن الإمام الصادق( عليه السلام ) قال: «إنّ رضا الناس لا يملك ،وألسنتهم لا تضبط ،ألم ينسبوا داود إلى أنّه اتّبع الطير حتّى نظر إلى امرأة أوريّا فهواها ،وأنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوّج بها !» .
وأخيراً ،ورد حديث في كتاب ( عيون الأخبار ) في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال الرضا ( عليه السلام ) لابن الجهم: «وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه » ؟
قال: يقولون: إنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على هيئة طير أحسن ما يكون من الطيور ،فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريّا بن حيان .
فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريّا تغتسل ؟فلمّا نظر إليها هواها ،وكان قد أخرج أوريّا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريّا أمام التابوت فقدّم فظفر أوريّا بالمشركين فصعب ذلك على داود ،فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم فقتل أوريّا وتزوج داود بامرأته .
قال: فضرب الرضا ( عليه السلام ) يده على جبهته وقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ،لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة ،ثمّ بالقتل » .
فقال: يا ابن رسول الله ،ما كانت خطيئته ؟
فقال: «ويحك إنّ داود ( عليه السلام ) إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه ،فبعث الله عزّ وجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقال: ( خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقّ ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ،إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب ) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال: ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك ،ولم يقبل على المدّعي عليه فيقول له: ما تقول ؟فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ،ألا تسمع الله عزّ وجلّ يقول: ( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ) إلى آخر الآية .
فقال: يا ابن رسول الله ،فما قصّته مع أوريّا ؟
قال الرضا ( عليه السلام ): «إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً ،فأوّل من أباح الله عزّ وجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود ( عليه السلام )فتزوّج بامرأة أوريّا لمّا قتل وانقضت عدّتها ،فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريّا » .
يستفاد من هذا الحديث أنّ مسألة أوريّا كانت لها جذور حقيقيّة بسيطة ،وأنّ داود نفّذ ما جاء في الرسالة الإلهيّة ،إلاّ أنّ أعداء الله من جهة ،والجهلة من جهة أخرى ،إضافةً إلى مؤلّفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائماً قصص عجيبة وكاذبة من جهة ثالثة ،اختلقوا سيقاناً وأغصاناً وأوراقاً لهذه القصّة كي ينفّروا الإنسان من داود .
فأحدهم قال: لا يمكن أن يتمّ هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدّمات له ؟
والآخر قال: يحتمل أنّ بيت أوريّا كان مجاوراً لبيت داود !
وأخيراً لكي يؤكّدوا أنّ داود ( عليه السلام ) شاهد زوجة ( أوريّا ) اصطنعوا قصّة الطير ،وفي النهاية اتّهموا أحد أنبياء الله الكبار بارتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة والمخزية ،وتناقلتها ألسنة الجهلة والبلهاء ولولا انّها مذكورة في الكتب المعروفة لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها .
وبالطبع ،فإنّ هذه الرواية لا تختلف عن حديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،لأنّ حديثه يشير إلى أنّها قصّة كاذبة مزيّفة تنسب ارتكاب الزنا وغيرها من المحرّماتنعوذ باللهإلى أحد الأنبياء الكبار .
آراء المفسّرين
بعض المفسّرين ذكروا آراء أخرى لقصّة داود ،رغم أنّها لا تتناسب مع ظاهر آيات القرآن المجيد ،فإنّنا نرى من الضروري الإشارة إلى بعضها لإكمال البحث:
منها: أنّ داود ( عليه السلام ) كان قد قسّم ساعات يومه وفق برنامج منظّم ،ولم يكن يسمح لأحد بمراجعته إلاّ في الساعات المخصّصة للمراجعة ،وفي أحد الأيّام تسوّر شخصان المحراب وقد اتّفقا على قتل داود أثناء فترة عبادته لله سبحانه وتعالى ،تسوّرا سور المحراب ،ولكن عندما وصلا بالقرب من سور المحراب شاهدوا الجند والحرس يحيطون به من كلّ جانب ،وخوفاً من أن ينكشف أمرهما ،اختلقا قضيّة كاذبة ،وادّعيا أنّهما أتيا إلى داود ( عليه السلام ) ليحكم بينهما ،وشرحا القصّة التي تطرّق إليها القرآن الكريم ،وقد قضى داود ( عليه السلام ) بينهما ،ولكون الهدف من هذه اللعبة كان قتله ،فقد غضب وصمّم على الانتقام منهما ،ولم يمض إلاّ وقت قصير حتّى ندم داود على تصميمه هذا واستغفر الله .
يقول العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان ( وأكثر المفسّرين تبعاً للروايات إنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داود ( عليه السلام ) كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه ،وستعرف حال الروايات لكن خصوصيات القصّة كتسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه ،وكذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له وليس واقعة عادية ،وقوله تعالى بعد: ( فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى ) الظاهر في أنّ الله ابتلاه بما ابتلي لينبّهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ،كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة وقد تمثّلوا في صورة رجال من الإنس .
( والمقصود من التمثّل هو عدم وجود هؤلاء الأشخاص واقعاً وفي الخارج ،بل أنّ ذلك انعكس في ذهن داود وفي إدراكه ) .
وعلى هذا فالواقعة تمثّل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة ،يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة ،وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة: ( لقد ظلمك ) الخ وكان قوله ( عليه السلام )لو كان قضاءاً منجزاًحكماً منه في ظرف التمثّل ،كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم ،ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثّل ،كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنّما التكليف في عالمنا المشهود ،وهو عالم المادّة ،ولم تقع الواقعة فيه ،ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلاّ في ظرف التمثّل ،فكانت خطيئة داود( عليه السلام )في هذا الظرف من التمثّل ولا تكليف هناك ،كخطيئة آدم ( عليه السلام ) في الجنّة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف ،واستغفاره وتوبته ممّا صدر منه كاستغفار آدم وتوبته ممّا صدر منه ،وقد صرّح الله بخلافته في كلامه كما صرّح بخلافة آدم ( عليه السلام ) في كلامه ) .
ولكن من المسلّم به أنّ ظاهر الآيات يوضّح أنّ الشكوى والخصام كان من قبل أفراد حقيقيين لهم وجود ظاهري ،وفي هذه الحالة لم يكن قضاء داود ذنباً صادراً عنه ،خاصّة بعد أن استمع لأقوال أحدهم وحصل عنده علم ويقين في إعطاء الحكم ،رغم أنّ الآداب المستحبّة في القضاء توجب عليه أن يتأنّى في إصدار الحكم ولا يتعجّل ،واستغفاره إنّما كان لتركه العمل بالأولى .
وعلى أيّة حال ،لا توجد أيّة ضرورة لاعتبار وقوع حادثة التحكيم هذه في ظرف التمثّل أو لأجل تنبيه داود ( عليه السلام ) .والأفضل أن نحافظ على ظاهر الآيات وتفسيرها بالترتيب الآنف الذكر الذي حفظ ظاهر الآيات دون بروز أيّة مشاكل تمسّ مقام عصمة الأنبياء