{أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الذي ينطلق من موقع الفكر والوعي والممارسة ،لا من موقع الكلمة المجرّدة ،والتمثيل المصطنع ،والحركة الغارقة بالأطماع والشهوات والارتباطات المشبوهة بالأصنام التي اتخذها الناس أرباباً من دون الله بسبب الجهل والتخلف والتصورات الوهمية التي تصنع للأشياء أسراراً لا حقيقة لها ،ودوراً لا أساس له ،ومعنىً لا عمق له ،وعظمةً لا أفق لها ،لأنهم يريدون الارتباط بالحس الذي يفرض نفسه على الجانب المادي من وجودهم ،فإذا ارتبطوا بالغيب من خلال مؤثراتٍ معينة ،كأن يؤمن بعضهم بالله ،فإنهم يصنعون لأنفسهم أرباباً صغاراً ،يمنحونهم صفة الوسائط بين الله وبين عباده ،على أساس ما يتعارفون عليه بينهم من أن الشخص الكبير لا يمكن أن يصل الناس إليه بشكل مباشرٍ ،لأنهم دون مستوى الحديث معه ،والجلوس إليه ،فلا بد من أن يكون هناك أشخاصٌ أقلّ درجة منه ممن يقتربون في درجتهم من الناس ،ليتعبد الناس إليهم ،ليقربوهم إلى الشخص الكبير ،وبهذا يختلط الإيمان بالله ،بالإيمان بالناس أو بغير الناس من الأصنام المزعومة ،فتتحرك العبادة في مزيج من الإيمان والثنائية ،ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ .وهذه هي الصورة القرآنية للشرك الذي ينفذ إلى عمق التوحيد ،فيذهب صفاؤه ونقاؤه .
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} من أشخاصٍ وأصنامٍ وموجوداتٍ كونية كالكواكب ونحوها ،يقولون لمن ينازعهم في هذه العبادة التي تجعلهم يشركون بعبادة الله غيرها{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} والزلفى القربى .وبذلك كانت عبادتهم للواسطة التي تقرّب من الله ،لأن الله لا يحيط به عقل الإنسان ولا يمكن للشخص أن يقترب إليه إلا من خلال غيره ممّن جعلهم وكلاء عنه ومدبّرين للعالم بالنيابة عنهكما يزعمونوبهذا ينفذ الشرك إلى حياة الناس ليكون لهم ربٌّ كبير وأرباب صغار .
علاقة الآية ببعض العادات الإسلامية في الزيارة والشفاعة
وقد أثار بعض العلماء الحديث حول علاقة الآية بما تعارف لدى المسلمين من زيارة قبور الأنبياء والأولياء ،وممارسة بعض الطقوس التقليدية عندها كالوقوف أمامها على سبيل الاحترام ،أو تقبيلها ،أو النطق بكلمات الاستشفاع والتوسل بالنبي أو الولي .
ويثار الموضوع باعتبار أن هذه الممارسات تقترب من ممارسات المشركين أمام أصنامهم ،وتنطلق من الروحية ذاتها ،فهؤلاء وأولئك يعتقدون بألوهية الله الواحد ،ولكنهم يعبدون الأصنام أو الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء ليقربوهم إلى الله زلفى ،ما يجعل من المسلمين مشركين بالعمق ،بما يعيشونه من عقلية المشركين ،وما يمارسونه من طقوسهم .
وقد كانت هذه المسألة مثار جدلٍ كبير بين العلماء المسلمين ،ومنطلق اتهاماتٍ حادّةٍ ،وكلماتٍ لاذعةٍ .ولا تزال تتحرك المسألة في دوائر لا تقترب من الحوار الفكري الجادّ الذي يجلس فيه المتحاورونوجهاً لوجهفي ساحات العلم ،بل تبقى في دائرة الجمود الفكري الذي يعمل على تعقيد القضايا لأغراض أخرى .
وربما كان التحديد العلمي لكلمة العبادة ،حلاًّ للمشكلة ،فهل هي مطلق الخضوع لشيءٍ أو لشخصٍ ،بقطع النظر عن الدوافع الكامنة في عمق الذات ،أو عن النظرة التي ينظر فيها الإنسان إلى هذا الشيء أو الشخص ،لتتسع الكلمة لكل مظهر تعظيمٍ أو احترامٍ أو خضوعٍ ذاتيّ ؟
أو هي الخضوع الكليّ الذي يشمل الكيان ،بكل مشاعره ،بسبب اعتقاد بألوهية المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله ،كما يشير إليه ما ذكره أستاذنا المحقق الخوئي بقوله: «والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشيء على أنه ربّ يعبد ..» ؟.
وعلى ضوء هذا المعنى الثاني الذي يتبناه القائلون بشرعية الطقوس المتبعة في زيارة الأنبياء والأولياء ،فإن المسألة تبتعد عن الشرك ،لأن زوّار هذه القبور لا يعتقدون بألوهية الأنبياء والأولياء ،بل يرونهم عباداً لله لا يملكون شيئاً إلا به ،ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ،عندما يسمح لهم بالشفاعة .وقد يرون لهم بعض الصفات التي تؤهلهم ليكونوا جديرين بالاحترام والتعظيم ، ما يجعل لحضورهم في الفكر والشعور أساساً لحضور تاريخهم الممتد في رسالتهم وروحيتهم وأخلاقيتهم ،وهو ما يُعمل على استعادته في حياتهم من موقع القدوة في حركة الرسول والرسالة والقيادات المنطلقة في خطها الحيّ المتحرك .
قد نحتاج إلى الحوار في هذا الموضوع ،لنؤكد الفرق بين عبادة الشخصيات الدينية وبين احترامها وتقديرها ،لنضع الحد الفاصل بينهما بوضوح ،لئلا يختلط الأمر في حركة العقيدة في أفكارنا ومشاعرنا ،كما اختلط في أذهان الكثيرين من العامة ،وبعض الخاصة ،ما جعلهم يمارسون هذه الطقوس بطريقةٍ تتجاوز الحد المعقول المتوازن ،وبروحيةٍ قد تصل إلى بعض مشاعر الغلوّ البعيد عن الروح القرآنية .
وربما كان من الضروري أن نرجع إلى القرآن في أسلوبه الإجمالي والتفصيلي لجلاء الصورة الحقيقية للشخصيات الدينية ،وفي طبيعة التعامل معها ،بعيداً عن الأجواء الفلسفية المعقّدة الغريبة عن الأجواء القرآنية ،لئلا تغرق العقيدة في تيارات التأويل البعيدة عن ظواهر القرآن وغير المنسجمة مع الذوق السليم .
وقد لا يكون من الضروري أن ندخل في إخضاع الكثير من الظواهر الشعبية في ممارسة الطقوس ،للفلسفات التأويلية المعقّدة الخاضعة للإمكان والاستحالة والدخول في جدلٍ فلسفيٍّ حول شرعيتها ،ما دامت لا تمثل الخط المتوازن في العقيدة ،لذا يكتفى بالوقوف عند القاعدة العقيدية الثابتة في القرآن والسنة .
الله هو الحكم بينهم
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} هناك احتمالاتٌ في مرجع الضميرين ،فقيل: إن ضمير الجمع للمشركين وأوليائهم ،وقيل: الضميران راجعان إلى المشركين وخصمائهم من أهل الإخلاص في الدين ،وهو المفهوم من السياق .ولعل الثاني أقرب إلى الجوّ ،لأن المعركة التي يهتم بها القرآن هي معركة التوحيد مع الشرك ،وربما كانت هذه الفقرة إيحائيةً للضغط على تمرّدهم وعنادهم غير المبرر ،في ما توحي به من التدخل الإلهي بكل عظمة الله وقدرته وعلمه وإحاطته بالأمور كلها ،ليقف الجميع كلهم أمامه ،ليصدر الحكم الفاصل الذي لا يملكون أمامه أيّ اعتراض ،لأنه الحقيقة الحاسمة التي لو فكروا وتأملوا ورجعوا إلى عقولهم لأدركوها بكل عفويّةٍ وبساطة .ولكن مشكلتهم أنهم غارقون في الأوهام التقليدية التي ورثوها من عصور التخلف ،في تاريخ الآباء والأجداد ،فلا يتحررون من ضغط ذلك الجوّ ليحصلوا على قناعة الإيمان من أقرب طريق .
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار} لأنهم يعيشون في حالة رفضٍ للإيمان ،فلا يستمعون لكلمات الفكر ،ولا يتطلعون إلى آيات الله في الكون ،ولا يدخلون في حوار ،بل يغلقون أسماعهم وأبصارهم وعقولهم عن ذلك كله ،محتفظين بكفرهم وشركهم ،ولذلك فلا مجال لهدايتهم في ما يريد الله لهم من اختيار الهداية من موقع الإرادة ،كما أن الله لا يخلق الهداية فيهم ،كما يخلق فيهم الأجهزة التي تدخل في تكوينهم .وبذلك لم يكن نفي الهداية لهؤلاء من موقع النفي المطلق لها ،لأن الله قد أعطى عباده كل وسائل الهداية التي يرفضها بعضهم ،بل من موقع النفي الفعلي لها في دائرة اختيارهم ،وفي دائرة إجبارهم عليها من خلال التكوين .