{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} قليا محمدفي هذا الجوّ الموبوء بالجهل والتخلف ،المملوء بالغفلة والنسيان ،الذي يعيش أفراده في وحول الشرك والعصيان ،ويستغرقون في شهواتهم ،فلا يرتفعون إلى الآفاق الرحبة التي تفتح العقول على الله ،وتطهّر القلوب في روحيّة عبادته ...،قل كلمتك الخاشعة المبتهلة المنفصلة عن كل هذه الكلمات ،البعيدة عن كل إيحاءاتها المتمرّدة ،ومداليلها المتخلّفة ،وانطلق في مناجاتك بالكلمات المؤمنة التي توحي بعظمة الله ،وتتحدث عن الحقيقة المتمثلة في سيطرته على الكون كله ،وفي حكمه على الخلق كلهم ،وتنادي الله بصفاته التي تملأ الروح الإنسانية بالمعاني التي تفتح آفاقها على العلاقة العميقة التي تشده إليه ،وهي علاقة أقوى صلابةً وثباتاً وامتداداً ،وذلك في موقع خلقه للسماوات والأرض ،وإبداعه لكل شيءٍ فيهما ،وتدبيره للنظام الذي يتحرك في رحابهما ،ليستمعوا إلى هذه الصفة{فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} ويعيشوا معها إحساسهم بأن وجودهم مستمدٌّ منه ،وأنّ كل مفردات هذا الوجود التي تكفل لهم استمرار الحياة مخلوقةٌ له خاضعةٌ لإرادته ،ليفكروا به من خلال وجودهم في العمق ،ويستغرقوا في محبته من خلال استغراقهم الواعي في الإحساس بوجودهم المرتبط بوجود الكون كله في قدرته .
{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أنتيا ربناالذي تحيط بكل شيء من دون أن يغيب عنك شيء ،فأنت في الغيب ،كما أنت في الشهادة ،محيطٌ بالأمر كله في عمقه وامتداده ،وفي كل السر المخفيّ فيه ،لأن الأشياء كلها حاضرةٌ عندك ،لأنك أنت الخالق لها ،العالم بكل خفاياها التي قد تخفى عن بقية المخلوقات ،ولكنها لا تخفى عنك ...وهذا ما يجعلنايا ربنحسّ بأننا مكشوفون أمامك بما نخفي أو نعلن من أقوالنا وأعمالنا وعلاقاتنا العامة والخاصة ،ما يثير فينا الشعور بأننا سنقف بين يديك لتكون الحكم في كل القضايا التي نختلف فيها في قضايا العقيدة والحياة ،فإذا كنا لا نصل إلى نتيجة حاسمةٍ مُرضيةٍ في ذلك في ما تثيره من حديث الحوار في هذه الخلافات ،لأن هناك من يتمرّد على الحق ،ويتنكر له من دون أساس ،على خط العناد المستكبر ...ولكن من هو الذي يستطيع أن يعاند حكمك في يوم القيامة ؟فهذه هي الحقيقة التي لا بد للإنسان من أن يعيش في أجوائها الروحية في كل أفكاره .
{أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيعرفون في مثل إشراقة النور أين يقف الحق في قناعاتهم وفي مواقفهم التي كانوا يقتنعون بها أو يمارسونها في الحياة الدنيا ،فينتهي كل الخلاف وتذوب كل الكلمات المعاندة أمام الحكم الحق الصادر من الله .ويقف المعاندون ليواجهوا استحقاقات المصير في عذاب الله وليحاولوا أن يجدوا أيّة فرصةٍ للنجاة منه ،في هذا الموقف الصعب الذي تضيق فيه كل الفرص ،