تضع الآية المسألة في موقعها الإلزامي من التشريع ،على أساس أنها من حدود الله التي يجب على الإنسان أن يقف عندها ولا يتجاوزها ،فيكون للملتزمين بها الخلود في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار كرمز للفوز العظيم .أما المتعدون لهذه الحدود ،فينتظرهم يوم القيامة الخلود في النار والعذاب المهين فيها ،لأن ذلك هو جزاء الذين يعصون الله ورسوله .
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} التي بينها في فرائض الميراث وأمر اليتامى ،وفصّلها بطريقة واضحة لا تحتمل اللّبس ولا تدفع للخلاف ،فلا تتجاوزوها إلى غيرها لئلا تنحرفوا عن الخط المستقيم الذي أراد الله لكم أن تسيروا عليه في الانفتاح على مواقع طاعته .{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أوامرهما ونواهيهما{يُدْخِلْهُ} الله سبحانه{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها وأبنيتها ،{الاَْنْهَار} أي ماء الأنهار{خَالِدِينَ فِيهَا} فلا موقع للموت هناك بل هو البقاء والدوام في الحياة ،{وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفلاح العظيم ،وأي فلاح أعظم من الفوز بالمصير النهائي ،ليجد الإنسان نفسه في أجواء نعيم الجنة ورضوان الله .
وقد جاء هذا التعبير{حُدُودُ اللَّهِ} في أكثر من آية من أجل التأكيد على الاهتمام القرآني بالالتزام الحاسم الشرعي بالأحكام والقوانين والتعاليم الاجتماعية ،لأن القضية المطروحة في حركة العقيدة في الإنسان هي أن تتحول الخطوط التفصيلية في التشريع إلى خطوط عملية في السلوك الإنساني ،باعتبار أن الأحكام الشرعية تمثل التجسيد الواقعي العملي للقيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية في واقع الإنسان ،الأمر الذي يفرض زيادة التأكيد على الوقوف عندها وعدم تجاوزها ،لأن الالتزام بالرسالة يمثل في الإنسان الانطلاق في حركته الوجودية من خلال ما أمر الله به ،وفي سلبياته الحركية من خلال ما نهى الله عنه ،فذلك هو الذي يمثل شخصية الإنسان المسلم في عناصرها الفكرية والعملية ،وهذا ما أراد الله للإنسان أن يبقيه في وجدانه الديني التشريعي ،ولهذا كرر مضمون هذه الآية فذكرها في سورة البقرة في الآية ( 187 ) بعد الحديث عن حرمة الاتصال الجنسي بين الزوجين في الاعتكاف ،وبعد الاحكام المتعلقة بالصوم ،كما ذكرت في الايتين ( 229 ) و ( 230 ) من السورة نفسها ،وفي آية ( 10 ) من سورة الطلاق ،في سياق الحديث عن أحكام الطلاق ،وفي آية ( 4 ) من سورة المجادلة ،بعد بيان كفارة الظهار .
وهذا هو ما ينبغي للعاملين في حقل التربية الإسلامية أن يتمثلوه في مناهجهم التربوية للإيحاء للجيل المسلم بأن الانتماء يمنع الإنسان من التحرك بحرية في الساحة العملية الواسعة ليفعل ما يريد ويترك ما يريد تبعاً لهوى نفسه أو للبيئة المحيطة به ،فهناك حدود عقيدية لا بد أن يقف عندها في حركة فكره ،وهناك حدودٌ شرعيةٌ لا بد أن لا يتجاوزها في حركة عمله ،لأن ذلك هو معنى الإيمان بالله فكراً وعملاً والانفتاح على مواقع رضاه ،فإن مسألة الحرية الإنسانيّة تتحرك في الساحات التي منح الله فيها الإنسان الرخصة في الانطلاق فيها لا في الساحات التي وضع فيها حدوده .
هل يخلّد العاصي المسلم في النار ؟
ربما توحي هذه الآية كغيرها من الآيات التي تتحدث عن عذاب المتعدي لحدود الله في أجواء المعصية ،بخلود العاصي في النار ،وأن المسلم يمكن أن يخلد في النار بفعل معصيته ،وهذا هو ما استدل به القائلون بأن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة مخلّد في النار ومعاقبٌ فيها لا محالةكما جاء في مجمع البيانولكنه أشكل عليهم بأن الظاهر أن قوله{وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} يراد به جميع حدوده في العقيدة والعمل ،وهذه هي صفة الكفار ،لأن المؤمن يقف عند حدود الله في العقيدة وفي بعض مواقع الشريعة ،ويتجاوزها في البعض الآخر ،فلا تنطبق عليه الآية ؛هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فإن «صاحب الصغيرةبلا خلافخارج من عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية ومتعدياً حدّاً من حدود الله ،وإذا جاز لهذا القائل إخراجه منه بدليل ،جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النبي( ص ) أو يتفضل عليه الله سبحانه بالعفو ،بدليل آخر ،وأيضاً ،فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة ،فكذلك يجب إخراج من يتفضل الله عليه بإسقاط عقابه منها لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو ،فإن جعلوا الآية دالة على أنّ الله سبحانه لا يختار العفو ،جاز لغيرهم أن يجعلها دالة على أنّ العاصي لا يختار التوبة ،على أن في المفسرين من حمل الآية على من تعدى حدود الله وعصاه مستحلاً لذلك ،ومن كان كذلك لا يكون إلا كافراً » .
ولكن من الممكن أن تكون هذه الآية وأمثالها واردة على سبيل تحديد الاستحقاق للعذاب الخالد لا على بيان الفعلية ،فلا تنافي ما دل على عدم خلود المسلم في النار ،لأن إسلامه قد يكون سبباً في العفو الإلهي عنه ،والله العالم .