من أحكام الإرث
وبعد فهذه بعض التفاصيل التي قرّر فيها الإسلام حكم الإرث ،الذي ركزه على أساسين: النسب ،والسبب .والسبب نوعان: زوجية وولاء .وقد عرض القرآن لبعض موارده تاركاً التفاصيل الشاملة لما بيّنه الرسول( ص ) في أحاديثه من حكم الفرائض ،ونحن نشرح ما ذكره القرآن في عدة نقاط
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} .
وهناك نقطة لا بد من إثارتها لأنها وقعت موضعاً للجدل بين المسلمين بعد وفاة النبي( ص ) ،وهي أن ظاهر إطلاق الآية عدم الفرق في نظام الإرث بين النبي( ص ) وسائر الناس ،فلم يرد فيها ولا في غيرها من الآيات أي تقييد يؤدي إلى خروج النبي عن هذا الحكم بحيث لا يرثه أقرباؤه ،فإن هذه الآية تلتقي في هذا الإطلاق والعموم بقوله تعالى:{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالاَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالأقْرَبُونَ} [ النساء:7] ،وربما قيل إن آيات القرآن العامة لا تشمل النبي لأنها جرت على لسانه ،ولكن هذا ليس صحيحاً ،لأننا نلاحظ أن النبي كان مخاطباً بكل الأحكام الإسلامية العامة في القرآن ،من الواجبات والمحرمات وهو أمر واضح باعتباره «أوّل المسلمين » .وقد جرى جدال بين أبي بكر والسيدة فاطمة الزهراء( ع ) حول هذا الموضوع عند مطالبتها له بإرثها من أبيها في قصة فدك ،فروى رواية تقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ،ما تركناه صدقة » وقد أنكرت السيدة الزهراء صحة هذه الرواية لأن النبي لم يبلغها ذلك ،مع أن القضية في هذا الحكم سلباً أو إيجاباً محصورة بها لأنها الوارث الوحيد للنبي محمد( ص ) .
وقد أشرنا إلى هذا الموضوع استكمالاً للبحث القرآني باعتبار أنه من متعلقاته .
وهذا هو قانون الإرث في نطاق العلاقة الزوجية ،الذي ارتكز على أساس التفريق في الحصة ،على أساس القاعدة الشرعية في الفرقفي الإرثبين الذكر والأنثى ،في زيادة حصته على حصتها ،مع ملاحظة حالة وجود الولد للميت وعدمها ،وذلك لمصلحة الولد ،فجعل للزوج نصف التركة في حال عدم وجود الولد للزوجة ،وربعها في حال وجوده ،كما جعل للزوجة ربع التركة مع وجود الولد للزوج ،وثمنها مع عدم وجوده .ولا بد من التنبيه على نقطة مهمةفي هذا الموضوعوهي أن اعتبار نصيب المرأة الزوجة ربعاً أو ثمناً مختص بما إذا ترك الميت زوجة واحدة ،أما إذا ترك أكثر من زوجة ،فلا بد من تقسيم الحصة «الربع أو الثمن » عليهن بالتساوي ،وهذا ظاهر من الآية ،حيث تحدثت عن الحصة بطريق الجمع الذي قد يوحي بذلك .وينبغي أن يلاحظ ،في إرث الزوجين ،أنهما يجتمعان مع كل الطبقات ،فيرثان حصتهما من دون نقصان ،لأن هذه العلاقة تمثل أساساً مستقلاً للإرثٌ ،لا يلغي وجود أساس آخر للاخرين كالنسب .
7{وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} .
المراد بالكلالة ،غير الوالدين والأولاد من القرابة ،وقد قيل بأنها مأخوذة من الإكليل ،بما تتضمنه من معنى الإحاطة ،باعتبار إحاطتهما به كما يحيط الإكليل بالرأس ؛وقد تكون وصفاً للميت ،باعتبار توريثه لغير الولد والوالدين ؛وقد تكون وصفاً للحيّ باعتبار أنه من هذه الفئة ،وقد جاءت هذه الكلمة في آيتين من السورة ،إحداهما هذه الآية ،والثانية في آخر السورة ،{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكلالَةِ} [ النساء: 176] .
وقد ذكر في الفقه ،أن المراد بهذه الآية هم أخوته وأخواته لأمه ،أما في الآية الثانية ،فإن المراد بها أخوته لأبيه وأمه ،أو لأبيه فقط .وقد ذكرت الآية أن للواحد من ولد الأم السدس من غير فرق بين الذكر والأنثى ،على أساس أن الحصة هنا بلحاظ الأم وبشكل مستقل ،أما إذا كانوا أكثر من واحد ،فهم شركاء بالثلث على نحو التساوي .وقد عقبت الآية بما تقدم في الفقرات السابقة عن أن الميراث لا يكون إلا بعد وفاء الدَّين وإنفاق الوصيّة ،وقد أشارت إلى رفض الإضرار بالدَّين وبالوصية ،ويقصد بالأول الإقرار والإيصاء بالدَّين الذي لا يراد منه إلا الإضرار بالورثة ،وبالثاني: الإيصاء بالزائد عن الثلث ،فإن الزائد يتوقف على رضا الورثة .وقد وضع القرآن هذا التشريع في الإرث في نطاق «الوصية من الله » من أجل أن يأخذ معنىً وروحاً ،بالإضافة إلى ما فيه من مضمون مادي ،ليتحرّك المؤمن على أساس الروح الإيمانية التي توحي إليه بأنه ينفذ وصايا الله وينطلق في خط طاعته .
ولكن هذا التعبير لا يوحي بالرخصةكما يخيل للبعضباعتبار أن الوصية تدخل المضمون في الجو الأخلاقي غير الإلزامي ،فإن مفهومها لا يحمل أي شيء من ذلك ؛بل قد نلاحظ في التخطيط الشرعي للوصية الصادرة من الإنسان ،لوناً من ألوان الإلزام .وذلك في قوله تعالى:{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [ البقرة:181] ،ويضاف إلى ذلك دلالة الآيتين اللاحقتين على الإلزام في أعلى درجاته .
العول
وهناك مسألة في الإرث كانت ولا زالت موضعاً للجدل بين السنة والشيعة .وهي مسألة العول ،ولا بد لنا من التعرض لها إجمالاً لعلاقتها بالمسألة التفسيرية لآيات الإرث باعتبار أنها قد توحي بعدم الدقة في أحكام الإرث .
والعول هو أن تزيد السهام على التركة ،كما لو ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين ،فإن توزيع التركةبمقتضى قانون الإرث القرآنيأن يكون للزوجة الثمن وللأبوين الثلث ،وللبنتين الثلثان ،ومن الطبيعي أن التركة لا تتسع لذلك ،لزيادة الثمن على التركة ،لأن الثلث والثلثين تستوعبانها .ومن الملاحظ أن مورد العول هو وجود الزوج الذي يستحق الربع في الفرض المذكور لو كان بديلاً عن الزوجة ،ووجود الزوجة التي تستحق الثمن .
وقد اختار أصحاب المذاهب الأربعة حلّ المشكلة بإدخال النقص على كل أصحاب الفروض من كل واحد بحسب فرضه ،تماماً كأرباب الديون إذا لم يتسع مال المدين لكل حقوقهم ،ففي الفرض المذكور تصبح الفريضة من سبعة وعشرين سهماً بعد أن كانت أربعاً وعشرين ،تأخذ الزوجة منها ثلاثة أسهم ،فيكون ثمنها تسعاً ،ويأخذ الأبوان منها ثمانية والبنتان ستة عشر .
أما الإمامية فقالوا إنه يدخل النقص على البنتين ،فتأخذ الزوجة حقها كاملاً ويأخذ الأبوان حقهما من دون نقص ويبقى الباقي للبنتين .واستدل أصحاب المذاهب على دعواهم بالقصة التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب في امرأة ماتت ولها زوج يرث النصف ،وأختان ترثان الثلثين ،فجمع الصحابة وقال لهم: فرض الله للزوج النصف ،وللأختين الثلثين ،فإن بدأت بالزوج لم يبق للأختين الثلثان ،وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج النصف ،وأراد لهم أن يشيروا عليه بالحل ،فأشار بعضهم بالعول ،وإدخال النقص على الجميع ،وأنكر ابن عباس ذلك بشكل حاسم ،ولكن عمر أخذ برأي هذا البعض وترك قوله وقال للورثة: ما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص ،وهكذا كان عمر أول من أعال الفرائض وتبعه جمهور السنة على أساس حجية فتواه .
أما الإمامية فقد قالوا إنه لا يمكن أن يجعل الله في الإرث نصفاً وثلثين أو ثمناً وثلثاً وثلثين ،فإن ذلك يستلزم الجهل والعبث في التشريع ،الأمر الذي يستحيل نسبته إلى الله ،تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ،لذلك فلا بد أن يكون النقص ثابتاً في أصل الشريعة بحيث كان التشريع متوازناً في الأصل ،فلا يحمل أية مشكلةٍ في ذاته .
وقد جاء في الكافي عن الباقر( ع ) في حديث قال: «كان أمير المؤمنين( ع ) يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو يبصرون وجهها لم تجز ستة » .
وقد أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال بأن أوّل من أعال الفرائض عمر: لما التفّت الفرائض عنده ودفع بعضها بعضاً ،فقال: والله ما أدري أيكم قدّم الله وأيّكم أخّر ؟وما أجد شيئاً هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص… ثم قال ابن عباس: وايم الله ،لو قدّم من قدّم الله وأخّر من أخّر الله ما عالت فريضة ،فقيل له: وأيّها قدّم وأيها أخّر ؟فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة ،فهذا ما قدّم الله ،وأما ما أخّر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلاّ ما بقي ،فتلك التي أخّره فأما الذي قدّم ،فالزوج له النصف ،فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء .والزوجة لها الربع فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن ،لا يزيلها عنه شيء .والأم لها الثلث ،فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ،ولا يزيلها عنه شيء ،فهذه الفرائض التي قدم الله .وأما التي أخّر ففريضة البنات والأخوات ،لها النصف والثلثان ،فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك ،لم يكن لهن إلاّ ما بقي ،فتلك التي أخّر ،فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخّر بدىء بما قدم الله فأعطي حقه كاملاً ،فإن بقي شيء كان لمن أخّر ،وإن لم يبق شيء ،فلا شيء له .
وهكذا يدخل النقصفي نظر الإماميةعلى البنات والأخوات دون الزوج والزوجة والأم والأب ،لأن للبنات والأخوات فرضاً واحداً ولا يهبطن من فرض أعلى إلى فرض أدنى ،فيرثن بالفرض مع عدم وجود الذكر وبالقرابة مع وجوده ،وقد يكون لهن منه دون ما كان لهنّ منفردات ،أما الزوج فيهبط من النصف إلى الربع كما أن الزوجة تهبط من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس ،ويرث الأب السدس في بعض الحالات ،فكل واحد من هؤلاء لا ينقص عن فرضه الأدنى ولا يزيله عنه شيء فإذا اجتمع مع الفريق الآخر يقدم ولا يبدأ به ،وما بقي للبنات أو للأخوات .
وجاء في فقه الإمام جعفر الصادق( ع ) للشيخ محمد جواد مغنية ،نقلاً عن كتاب «الميراث عند الجعفرية » للشيخ محمد أبو زهرة ،قال ابن شهاب الزهري: «لولا تقدم فتوى الإمام العادل عمر بن الخطاب على فتوى ابن عباس ،لكان كلام ابن عباس جديراً بأن يتبعه كل أهل العلم ويصادف الإجماع عليه » وقد ذكرنا أن هذا الرأي روي عن الإمام علي( ع ) وسار عليه أئمة أهل البيت( ع ) .