لمن التوبة ؟
للتوبةفي المفهوم الإسلامي القرآنيمعنى العمق الإيماني في الانفتاح على الله بالعودة إليهفي حالة الخطيئةبالإحساس العميق بالندم على التمرّد العملي على أوامره ونواهيه ،والإرادة القوية الواعية في تغيير المسار من خط الانحراف إلى خط الاستقامة ،ومن تحويل الموقف من واقع المعصية إلى واقع الطاعة في روحية إيمانية تتمثل الإخلاص في العلاقة بالله .
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الذي يتقبل التوبة عن عباده مما فرضه لهم من الحق في قبولها بالعفو عن الخطيئة وغفران الذنب وإدخالهم في رحمته من جديد ،{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ} الذنب{بِجَهَالَةٍ} بالسير في خط الانحراف عن خطه المستقيم انطلاقاً من خللٍ في التصور ،أو في تقدير الأمور ،أو في حسابات الربح والخسارة ،أو غفلةٍ عن النتائج السلبية على قضية المصير الأخروي ،أو الخضوع لسلطان الشهوة تحت تأثير النفس الأمارة بالسوء مما يدخل في عنوان «السفاهة » العقلية أو العملية في غياب الوعي الصافي الذي ينظر إلى الأمور بوضوحٍ ويتحرك معها باتزان ،{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} قبل أن يعاينوا الموت ، وذلك في الحالة التي يملكون فيها التراجع عن الانحراف ،لأن الساحة تحمل الكثير من الفرص للتغيير ،لأن التوبة في مثل هذه الحالة تعني وعي خطورة الخطيئة وإرادة العودة الواعية إلى الله ،مما يوحي بأن هذا الإنسان يتحرك في نطاق العودة إلى معنى إيمانه في حركة الطاعة لله .
وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله{مِن قَرِيبٍ} الزمان القريب من وقت حصول المعصية ،فيكون المعنى التوبة الفورية والندم السريع ،لأن ذلك هو الذي يمنع من زوال أثر المعصية من النفس وعدم تجذّرها في عمق الشخصية ،فتكون الآية واردةً على سبيل الإيحاء بالتوجيه الإلهي بضرورة السرعة في التوبة ،فإنها أقرب إلى القبول ،ولا يمنع ذلك من قبول التوبة بعد مرور زمانٍ على المعصية ،باعتبار أنه يؤدي دوراً مهماً في تصحيح المسار ،لكن الحالة الأولى أقرب إلى الاستقامة .
{فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} من موقع رحمته التي تتسع للخاطئين التائبين الذين ابتعدوا عنه بفعل نقاط الضعف التي سيطرت على شخصياتهم وأرادوا العودة إليه ،بفعل التمرد على الضعف في اتجاه الانفتاح على القوة ،لأن الله يريد أن يمنح الإنسان الفرصة في كل وقت لتحويل نقاط الضعف في ذاته إلى نقاط قوة ،فإن ذلك يوحي بأن هذا الإنسان قد بدأ الرحلة الجديدة إلى الله في عملية إخلاصٍ وتوحيدٍ .
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} بالواقع الإنساني الذي تختبىء الغرائز في داخله لتقود كل حركته وتتحرك النوازع في حياته لتوجه هذه الغرائز إلى دائرة الانحراف ،مما يجعل للإنسان بعض العذر في خطاياه تحت تأثير الضغوط الداخلية والخارجية ،الأمر الذي يريد الله فيه أن يساعده على الوقوف في خط المواجهة والانتصار على الذات .
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ويستغرقون فيها ويخلدون إلى الأرض في غفلةٍ مستمرة لا تدع مجالاً لأيّ تغيير في الداخل وتمرّدٍ على أيّة حالة من حالات التوعية واليقظة الروحية ،لأن المسألة عندهم هي أن يعيشوا العمر في دائرة الشهوات والأطماع والملذات والأنانيات بعيداً عن أية رسالةٍ وعن أيّة عودة إلى الله وإنابةٍ إليه ورغبةٍ في الحصول على رضوانه ،فهم سادرون في غيّهم ،مصرّون على خطاياهم ،متمردون على ربهم ،غافلون عن آخرتهم وعن النتائج المهلكة التي يواجهونها هناك ،فلا يفكرون في توبة ولا يعملون للتراجع عن الذنب ،{حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} وعاين الأهوال القادمة ورأى تهاويل الواقع الجديد ،وعرف أن الفرصة قد انتهت ،وأنه يدخل في عالمٍ جديدٍ يواجه فيه نتائج أعماله ،ويقدِّم فيه حساب عمره كله ،{قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} كوسيلةٍ من وسائل التجربة في الخروج من المأزق والتعبير عن الاحباط ،فلم تكن المسألة لديه مسألة وعي وإرادة للتغيير ،لأن الوقت قد ذهب ،بل هي مسألة اضطرار خائف لا عمق له في الاختيار .{وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّار} فلم يأخذوا من الإيمان بأيّ سبب في كل مجالات حياتهم مع قيام الحجة عليهم في ذلك كله ،{أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا والآخرة جزاءً لتمردهم على الله في الخط الفكري والعملي .
وهكذا أراد الله التوبة لعباده رحمةً بهم ،وتشجيعاً لهم على التراجع عن مواقف الخطأ من موقع الإرادة الواعية المسؤولة ،لينفصلوا بذلك عن الأجواء المنحرفة في كل ما تحتويه من مشاعر وأحاسيس وعلاقات وظروف ونزوات ونزعات ،فيقف الإنسان موقف المتأمل الذي يحسب حساب ذلك كله في جميع نتائجه وآثاره ،بعيداً عن كل الضغوط الحسية والمعنوية ؛فيفكر كيف يستقبل عواقب ذلك بوعيٍ ومسؤولية .وعلى ضوء ذلك ،كان لا بد للتوبة من وعيٍ للموقف ومن إرادةٍ للتغيير ؛فينطلق الإنسان ليدخل في عملية مقارنةٍ بين المبادىء التي يؤمن بها ،من خلال ما يمثله إيمانه بالله وطاعته له ،من تخطيطٍ للعمل في صعيد الواقع ،وبين الممارسات القلقة المنحرفة التي تحرّكت في واقع حياته العملية .وهنا تبدأ عملية الشعور بالضغط الروحي الذي يثير في داخله الإحساس بالندم ،في حركة المسؤولية في فكره وضميره ،وتتحرك إرادة التحول والتغيير في داخل نفسه .ولعلّ من البديهي أن يكون للإنسان امتداد في حياته العملية في المستقبل ،ليعيش هذا الوعي وهذه الإرادة ،وليتحقق له الصدق الواعي الحرّ .ولهذا جاءت هاتان الآيتان لتجيبا عن السؤال: «لمن التوبة » ؟
وكان الجواب ،حديثاً عن نموذجين من الناس ،فهناك النموذج الذي عمل السوء بجهالةٍ ،وربما كانت كلمة الجهالة تعطي معنى عدم العلم ،وربما كانت تعبر عن السفاهة وعدم الوعي وعدم المسؤولية ،على أساس أن العلم الذي لا يترك تأثيره في عملية الوعي الداخلي لا يبتعد عن الجهل في طبيعة النتائج السلبية .
وقد كثر في القرآن ،وفي غيره ،استخدام كلمة الجهالة للتعبير عن ذلك ؛بل ربما قال بعض العلماء: إن كلمة الجهالة ،تعني السفاهة بشكل أساسي .وربما كان هذا المعنى هو الأقرب للفكرة التي تعالجها الآية ،لأن التوبة لا تنحصر بأولئك الذين يعصون الله عن غير علم بما يفعلون ،بل تشمل كل أولئك الذين ينحرفون عن الخط جهلاً أو عمداً ،من دون وعي عمليّ داخليٍّ للنتائج ،بالمستوى الذي يحرك الإحساس والشعور ،ويحول المعرفة إلى حالةٍ شعوريةٍ داخليةٍ قويةٍ .فقد فتح الله لكل أولئك باب التوبة ،إذا تراجعوا عن انحرافهم وتابوا عن قريب ،أي قبل أن يدهمهم الموت فيلاقوه وجهاً لوجه ،فإن التوبة تمثّلفي مثل هذا النموذجالموقف الذي يعبّر عن يقظة الإيمان داخل النفس وحركته في آفاق الضمير ،وينطلق بالإنسان في عملية التغيير ،لأن الساحة الزمنية المفتوحة أمامه تترك له المجال لتجربةٍ جديدةٍ وعملٍ جديدٍ من أجل التصحيح والتقويم .وهؤلاء الذين يمارسون موقف التوبة في هذا الاتجاه ،هم الذين يتقبل الله توبتهم ويفتح لهم باب رحمته ومغفرته ،على أساس علمه بهم وبمنطلقاتهم وتطلعاتهم ،من خلال ما تقتضيه الحكمة من إفساح المجال للإنسان الذي يعيش حركة التجربة في حياته بين الخطأ والصواب أن يبدأ عملية التصحيح في كل فرصة مناسبة لذلك .
وهناك النموذج الذي تمتد به المعصية في نطاق التمرد في عمر الزمن ؛فهو لا يفكرأبداًأن يتوقف ما دامت الحياة مفتوحة ،والفرصة متاحةً له ،لأن القضية عندهفي كل طموحاتههي إرواء شهواته وتحقيق مطامعه الذاتية ،أمّا حسابات الله والدار الآخرة ،فهي مؤجّلةٌ دائماً ،بل ربما كانت من الأمور الثانوية المغفول عنها التي لا يدخلها في حسابه ،حتى إذا واجه الموت وضاقت عليه نواحي الحياة قال:{إِنِّى تُبْتُ الآن} ولكنها ليست توبةً ،بل هي محاولة هروبٍ من حراجة الموقف بالانطلاق بالكلمة السريعة التي يواجه بها الكثيرون من الناس المواقف الصعبة ،من أجل أن يتخففوا بذلك من حراجة المشكلة ؛ثم يرجعون عنها إذا كان هناك مجال للرجوع .وبذلك لا تكون هذه الكلمة تعبيراً عن موقف وعي ،وإرادة تغيير ،بل تكون تعبيراً عن حالة تخلّصٍ من المأزق الصعب .ويتمثل هذا النموذج في نوعين من الناس: المؤمنين الذين يعيشون الإيمان فكراً بعيداً عن الممارسة ،والكافرين الذين يواجهون الموت بالكفر ،من دون عمق في الفكر والشعور وامتداد في مجال الالتزام والممارسة .وقد أكّدت الآية أن هؤلاء لا تُقبَل توبتهم بل ينتظرهم العذاب الأليم .
وقد جاء في الحديث عن رسول الله( ص ) في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة ،تاب الله عليه .ثم قال: إن السنة لكثيرة ،من تاب قبل موته بشهر ،تاب الله عليه .ثم قال: إن الشهر لكثير ،ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه ،ثم قال: إن الجمعة لكثيرة ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه .ثم قال: إن يوماً لكثير ،ومن تاب قبل موته بساعة ،تاب الله عليه .ثم قال: وإن الساعة لكثيرة ،ومن تاب وقد بلغت نفسه هذهوأهوى بيده إلى حلقهتاب الله عليه » .
وسئل الإمام جعفر الصادق( ع ) عن قول الله عز وجل:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة .ويقول صاحب الميزانتعليقاً على ذلك: «والرواية الثانية تفسر الآية وتفسير الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت ،العلم به ،ومشاهدة آيات الآخرة ،ولا توبة عندئذ .وأما الجاهل بالأمر ،فلا مانع من قبول توبته » .
وما استوحيناه من الآية أن المقصود بها التوبة التي تعبر عن موقف وعي ،وإرادة تغيير في ما ينتظره الإنسان من الساحة الجديدة الزمنية التي تتحرك فيها خطواته العملية في المستقبل .ولن يكون ذلك إلا في المجال الذي ينتظر فيه المستقبل في انطلاقات الأمل الكبير بالحياة ؛وفي ضوء ذلك ،لا تكون أمثال هذه الروايات بعيدة عن الجو العام للآية .
التوبة في خط التربية الإسلامية
ومن خلال هذا العرض ،نستطيع اعتبار التوبة وسيلة عملية من وسائل التربية الروحية والعملية ،لأن الإنسان قد يعيش في أغلب مواقفه الوقوع في خطأ التجربة ،ويعاني من عقدة الشعور بالنقص أمام المنحدر السحيق الذي تقوده إليه أخطاؤه ؛وربما يقوده ذلك إلى التعقيد الداخلي والضياع الروحي ،عندما يصطدم بالحقيقة ويواجه النتائج الحاسمة وجهاً لوجه من دون أن يتمكن من تغيير الواقع ،فيبقى أسير عقدته ؛ويتحول ذلك إلى موقف سلبي من الحياة والأشخاص من حوله نتيجة ما تثيره العقدة الداخلية من أحاسيس ومشاعر وتحرّكات وتعقيدات .
وجاءت التوبة الإلهية لتقول للإنسان ،بأن الخطأ حالةٌ طبيعيةٌ في حياته ،انطلاقاً من نوازع الضعف الكامنة في داخل نفسه ،التي قد يستسلم لها تارة ،وقد يتمرّد عليها أخرى ؛فكان لا بد له من أن يسقط أمام حالات الضعف ...ولكن ليس معنى ذلك أنها ضريبةٌ لازمةٌ له ،لا يستطيع الفكاك منها والتحرُّر من عبوديتها ،بل هي قضيةٌ طبيعيةٌ ،تماماً كما هي الحالات الطبيعية العارضة للإنسان التي قد يحتاج إلى التعامل معها بفعاليةٍ ،ومعالجتها بحكمةٍ وقوّة ،كما يحتاج إلى عدم مواجهتها باللامبالاة والسلبية والاستمرار في أجواء الضياع .وهكذا كانت التوبة من أجل مساعدة الإنسان على مواجهة المعصية والخطأ ،كحالةٍ طارئةٍ لتزول وتذهب وتذوب ،فلا تبقى في حياته كعقدة ،لتتجدد له مشاعر الثقة بإنسانيته وبقدرته على رد التحدي ،وممارسة التغيير ،والبدء من جديد ...فلا يبقى أسير العقدة ،بل يقف أمام الله بكل حرية الإرادة ،وإرادة التغيير ،في ثياب بيضاء ،وقلبٍ مفتوحٍ للحق والخير والأمل الكبير بالمستقبل الأبيض الذي يبدأ من جديد ،تماماً كما لو لم يكن هناك أيّ ماض معقّد أسود ،لأن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له » ،فيخرج منه كما ولدته أمه .وإذا تاب الله على الإنسان ،وعاش مشاعر التوبة ،وأحسّ باللطف الإلهي يغمره بالمغفرة والرضوان ...فإنه يعيش الشعور الملائكي الروحيّ في نفسه ،كما لو كان ملاكاً يطير بجناحين من طهر ونقاء وفرح روحي كبيرٍ غامرٍ ...فيتجدّد ويتحوّل إلى إنسانٍ جديدٍ يبدأ الحياة مع الله ،في انطلاقة عمر جديد .
ويتحوّل إلى إنسانٍ جديدٍ يبدأ الحياة مع الله ،في انطلاقة عمر جديد .
وفي ضوء ذلك ،لن تكون التوبةكما يخيّل للبعضوسيلةً من وسائل تشجيع الإنسان على الامتداد في الخطأ والاستغراق في الجريمة ،لأنه يجد في التوبة طريقةً للهروب كلما أراد ذلك ؛وهكذا حتى تكون حياته كلها جريمة وتراجعاً ،الأمر الذي يجعل الشخصية الإنسانية في مستوى الميوعة الروحية والأخلاقية ،باسم التصحيح والتراجع .وقد أوضحنا الموضوعمن خلال مفهومنا للآيةوقلنا بأن التوبة ليست حالةً طارئةً سريعةً ،تتحرك في نطاق الممارسة الشكلية ،بل هي موقف وعي للمبادىء وإرادةٍ للتغيير ،ومحاولة جادة لتركيز الشخصية على أساسٍ متين ...مما يجعل من التصور الإنساني للمستقبل ،تصوراً للموقف الجديد الثابت الممتد في كل خطوات الزمن .وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين( ع ) في دعاء التوبة ،في الصحيفة السجادية في مناجاته لله:
«اللهم أيّما عبد تاب إليك ،وهو في علم الغيب عندك فاسخ لتوبته وعائدٌ في ذنبه وخطيئته ،فإني أعوذ بك أن أكون كذلك ؛فاجعل توبتي هذه توبة لا أحتاج بعدها إلى توبة موجبة لمحو ما سلف والسلامة في ما بقي » .
ثم يؤكد التصميم على الثبات على التوبةالموقففيعمل على الاستعانة بالله على أن يمنحه القوة للاستمرار على هذا الخط:
«اللهم ولا وفاء لي بالتوبة إلا بعصمتك ،ولا استمساك بي عن الخطايا إلا بقوتك ؛فقوّني بقوة كافية وتولني بعصمة مانعة » ...
وهذا ما أثارته الآيتان الكريمتان في تحديدهما للتوبة المقبولة وغير المقبولة ؛والله العالم .
الذنب والبيئة
ربما يثير البعض أن الإنسان خاضع في أفعاله إلى المحيط الذي نشأ فيه ،والبيئة التي ترعرعٍ فيها ،مما يجعل المؤثرات التي تدفعه إلى ممارسة الخطأ والخطيئة ضاغطة على إرادته بالدرجة التي لا يصدر العمل منه عن اختيار ،فإن الأب والأم والأقرباء والمدرسة والمجتمع والمناخ ونحوها تترك تأثيراتها في عناصر شخصيته فيتحرك من خلالها حركةً لا إرادية ،ويبتعد بسببها عن خط الاستقامة ،لذا كيف يحكم عليه بالإساءة وكيف يتصف فعله بالذنب ليحتاج بذلك إلى التوبة التي تخلصه من غضب الله وعقابه ،وكيف يعاقبه الله على ما لا خيار له فيه ؟
وإجابةً عن ذلك تقول ،لا ريب أن للبيئة تأثيراً كبيراً على شخصية الإنسان ،وعلى طبيعة عناصره التي تمثل نقاط الضعف فيه ،ولكن البيئة لا تشل إرادته ،ولا تغلق عقله ،ولا تمنعه من حرية الحركة في مواجهة الأفكار ،والخيارات الأخرى ،التي يمكن أن تحرك فكره وتهز قناعاته وتدفعه إلى البحث والحوار مع الآخرين ،مما يمكنه من تجاوز المؤثرات البيئية إلى قضايا أخرى ،فيملك القدرةبذلكعلى الاختيار ويتحرر من ضغط الواقع .
وقد رأينا في صعيد الواقع أن هناك الكثير من الناس الذين عاشوا في بيئة صالحة تحوّلوا بفعل مؤثراتٍ خارجية إلى أشخاص شريرين ،كما أن هناك الكثيرين من الذين عاشوا في بيئةٍ فاسدةٍ تحوّلوا بفعل التفكير الحرّ والحوار الهادف إلى أناسٍ خيّرين ،بل رأينا البعض من هؤلاء الناس يتحركون للضغط على ظروفهم وتغيير الأوضاع من حولهم ،وتلك هي حركة الطليعة الواعية التي تنتج من الواقع الفاسد واقعاً صالحاً ومن قلب اليأس أملاً ،ومن تهاويل الحزن فرحاً كبيراً .
وإذا عرفنا أن الله خلق للإنسان عقلاً متحركاً لا يتجمد في حال بل ينفتح على أكثر من أفقٍ رحبٍ ،فإننا نعرف من خلال ذلك ،أن العقل هو القوة التي تدفع الإنسان إلى التغيير من خلال إثارة الفكر المتنوّع من داخله وخارجه ،وعلى ضوء هذا يبقى الإنسان مع حرية الاختيار في فعل الحسن تارةً والقبيح أخرى بفعل جهاد النفس ،حيث يتمرد على الضعف ويتغلب على الانحراف ،وهذا ما يدركه الإنسان بالحسّ والوجدان .