{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وعلى أوامر دينه بعد الانحراف عنها ، ويعرف الأصفهاني التوبة في الشرع بأنها ترك الذنب لقبحه تداركه من الأعمال بالإعادة ، والتوبة على هذا النحو أعلى درجات الاعتذار ، وذلك ان الاعتذار على أنواع ثلاثة ، احدها:وهو أدناها إنكار الوقوع ، وهذا لا يتأتى بالنسبة للعلام خبير الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ، وثانيها:تبرير الفعل ، وذلك أيضا لا يمكن ان يكون امام الله تعالى ، وثالثها:وهو أعلاها الاعتراف بالوقوع وبأنه لا مبرر له ، وانه يرجو الصفح والغفران ، وانه مقلع عما ارتكب ، وذلك هو التوبة .
والتوبة إذا كانت قريبة من وقوع الذنب فقد وعدنا الله تعالى ، ووعده الصدق الحق ، بأن الله تعالى يقبلها . وتفضل الله سبحانه وتعالى تأكيدا للوعد ، وحثا على التوبة ، فعبر سبحانه بأن الغفران حق عليه ، ولذا عبر سبحانه بلفظ "على"فقال:{ إنما التوبة على الله} أي ان قبول التوبة حق على الله تعالى ، وذلك أبلغ درجات الصفح والغفران ، سبحانك إنك التواب الرحيم ، غفار للذنوب .
وعبر سبحانه وتعالى ب"إنما"الدالة على الحصر ، أي لا يكون قبول التوبة حقا على الله تعالى إلا بتحقق شروط ثلاثة:أولها:ان يكون ذنبه ليس كثيرا ولم يحط بنفسه و قلبه ، و لذلك قال تعالى:{ يعملون السوء} أي يقع منهم ما يسئ من غير ان تركس نفسه في السيئات وتحيط بها . وثانيها:ان يكون الفعل{ بجهالة} أي أنه وقع في حال غفوة الضمير و الضعف النفسي ، و من غير إدراكللعواقب ، ولا قصد للنتائج ، وقد قال السلف:إن كل ذنب على هذا النحو يكون بجهالة . وثالثها:انهم{ يتوبون من قريب} ، بحيث لا يسترسل في الشر استرسالا ، ويستمرئه ويكرره ويستمر عليه ، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم:{ والذين إذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون135}[ آل عمران] .
وذلك لن من يفعل الذنب على ذلك النحو لا يستغرق قلبه ، وقد ورد في الأثر"إن المذنب إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه ، ثم تتوالى النكت السوداء حتى يربد قلبه"، ومن يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب ليس كذلك ، وقد أكد الله قبول التوبة فقال:{ فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما} .
أي هؤلاء الذين ارتكبوا عن جهالة بعض الذنوب ، ولم تربد قلوبهم بتكرار الذنوب وتعددها واستمرائها والاستمرار عليها ، يتوب الله عليهم أي يقبل توبتهم ، ويأخذ بأيديهم إلى الهداية ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب ، وهذا ما تضمنه النص السامي{ يتوب الله} أي يسبغ التوبة عليهم ، وهي تتضمن معنى الاهتداء والاتجاه إليه سبحانه ، وإسباغ التوبة عليهم هو إلقاء الطهر عليهم فتتطهر نفوسهم ، وقد بين سبحانه ان ذلك مقتضى علمه وحكمته ، فقال:{ وكان الله عليما حكيما} أي أن الله تعالى يعلم النفوس وحركاتها وخلجاتها وسكناتها وميولها وانحرافاتها ، ويعلم ما يطهرها ، وما يركسها ، وما يهديها وما يغويها ، وهو بحكمته يعالج أدواءها . وقبول التوبة أبلغ علاج ، والصفح في أكثر أحواله دواء للأسقام التي تعرض للنفوس ، ولم تستقر فيها استقرارا .