{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات} بعد ان بين سبحانه الذين أخذ العهد ان يقبل توبتهم ، وهم الذين قد كانت حالهم ما ذكره سبحانه ، بين حال الذين لا تقبل توبتهم ، فقال تعالت كلماته:{ وليست التوبة} هنا نفي لوقوع التوبة ؛ لن حقيقة التوبة كما بينا تقتضي ان يكون العبد في فسحة من الوقت تمكنه من معاودة الخير ، فمن يقول عند حضور الموت:{ إني تبت الآن} ليس بتائب . وإذا لم تتحقق منه التوبة فإنه لا يستحق من الله تعالى القبول ؛ إذ لا موضوع له .
ومن هم أولئك الذين لا توجد منهم التوبة ، حتى لا يتصور قبولها ؟ ذكر الله فريقين:فريق العصاة من المسلمين ، وفريق الذين يموتون وهم كفار ، اما فريق العصاة من المسلمين فقد ذكر لهم وصفين او أمرين:احدهما – انهم يعملون السيئات ، أي تتعدد أنواع السوء ، وتكثر وتشيع في النفوس ، حتى يربد القلب بها ويسود ، وهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم:{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون81}[ البقرة] فالفرق بين هؤلاء ومن سبقوا ان الأولين ارتكبوا في غفوة من الضمير ، ولم يمت . وأما هؤلاء فقد مات وجدانهم الديني ، كأولئك الذين نراهم سادرين في الفساد وقد استهانوا بكل المحرمات الدينية والتكليفات الربانية . والوصف الثاني انهم لا ينطقون بالتوبة في وقت الاختيار ، بل ينطقون بها في وقت الاضطرار ؛ ولذا قال سبحانه:{ حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الآن} .
أي انهم يستمرون في غيهم يعمهون ، لا يستيقظ لهم ضمير ، ولا يقلعون عن معصية ، حتى إذا أزفت الآزفة ، وحضر الموت ، ولم يكن مناص من أخذهم ، قال قائلهم:إني تبت الآن ، ولم يقل سبحانه عن حالهم غنهم تابوا ، بل حكى قول أحد:{ إني تبت الآن} مما يدل على انهم لم تقع منه توبة قط ، وقوله لا يعد توبة في حقيقته ، وإنما سماه هو توبة .
وقد ذكر سبحانه من عصاة المسلمين فريقين:
أحدهما:الفريق الذي يتوب من قريب وقد ارتكب السوء بجهالة ، وقد وعد سبحانه بأنه يقبل التوبة منه ، وتفضل سبحانه فجعل القبول حقا عليه ، وهو فوق عباده .
والفريق الثاني:أولئك الذين استمروا في غيهم حتى أدركهم الموت . وبقى ثالث لم يذكره سبحانه ، وهو الذي لم يتب من قريب ، ولكنه تاب قبل ان يحضره الموت ، فما شان هذا الفريق الثالث ؟ قال مفسرو السلف إنه يعد قد تاب من قريب ، وإن تأخر في الزمان بالنسبة لأجله ، مادام قد تاب قبل ان يحضره الموت ، وكان في فسحة من الوقت ، وقد رووا في ذلك آثارا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، منها ما روى عن عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه"{[683]} . فمقياس القرب هو الا تكون التوبة وقت حضور الموت ، ووقته علمه بأنها دنت ، اما إذا كانت التوبة وهو صحيح يرجو الحياة ، فإنها مقبولة ، واجل الإنسان كله قريب . وقد بين سبحانه بعد ذلك الذين لا تقبل توبتهم من غير المسلمين فقال:{ ولا الذين يموتون وهم كفار} .
أي ان الله تعالى لا يعتبر توبة الكفار عن ذنوبهم توبة لنهم لن يؤمنوا ، فأساس الطاعات الإيمان . وإن تابوا قبل ان يموتوا وهم في فسحة من الوقت ، فإن توبتهم غير مقبولة ، وإنما تكون مقبولة إذا آمنوا ولم تكن من قبيل قول فرعون عند الغرق:{. . .آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين90}[ يونس] .
{ أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما} أي أولئك الذين لم يتوبوا ، هيأنا لهم عذابا مؤلما وجيعا ، وهذا يشمل عصاة المؤمنين ، والذين ماتوا وهم كفار ، غير ان الكفار خالدون في النار ، وأما عصاة المؤمنين فبمقدار ذنوبهم . .اللهم نجنا من عذاب النار واقبل توبتنا ،{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك . . .7}[ غافر] .