قوله تعالى:{ وليست التوبة للذين يعملون السيّئات} إلى{ وهم كفار} قسيم لمضمون قوله:{ إنما التوبة على الله} إلخ ،ولا واسطة بين هذين القسمين .
وقد اختلف علماء الكلام في قبول التوبة ؛هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرّع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل .
فأمّا المعتزلة فقالوا: التوبة الصادقة مقبولة قطعاً بدليل العقل ،وأحسب أنّ ذلك ينحون به إلى أنّ التائب قد أصلح حاله ،ورغب في اللحاق بأهل الخير ،فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب ،وهو منزّه عنه تعالى على أصولهم ،وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأنّ النظر هنا في العفو عن عقاب استحقّه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة .
وأمّا علماء السنّة فافترقوا فرقتين: فذهب جماعة إلى أنّ قبول التوبة مقطوع به لأدلّة سمعيّة ،هي وإن كانت ظواهر ،غير أنّ كثرتها أفادت القطع ( كإفادة المتواتر القطعَ مع أنّ كلّ خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلاّ الظنّ ،فاجتماعها هو الذي فاد القطع ،وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر ) ،وإلى هذا ذهب الأشعري ،والغزالي والرازي ،وابن عطية ووالده أبو بكر ابن عطية ،وذهب جماعة إلى أنّ القبول ظني لا قطعي ،وهو قول أبي بكر الباقلاني ،وإمام الحرمين ،والمازري والتفتزاني ،وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أنّ كثرة الظواهر لا تفيد اليقين ،وهذا الذي ينبغي اعتماده نظراً .غير أنّ قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلماذا نطلب في إثباته الدليل القطعي .
والذي أراه أنّهم لمّا ذكروا القبول ذكروه على إجماله ،فكان اختلافهم اختلافاً في حالة ،فالقبول يطلق ويراد به معنى رضي الله عن التائب ،وإثباته في زمرة المتّقين الصالحين ،وكأنّ هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لمَّا قالوا بأنّ قبولها قطعّي عقلاً .وفي كونه قطعيّا ،وكونه عقلاً ،نظر واضح ،ويدلّ لذلك أنّهم قالوا: إنّ التوبة لا تصحّ إلاّ بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقّق معنى صلاحه .ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة ،وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سمعياً لا عقلياً ،إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل ،وهذا هو المختلف في كونه قطعيّا أو ظنيّا ،ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنّها في ذاتها عمل مأمور به كلّ مذنب ،أي بمعنى أنّها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرّا على إتيانها ،فإنّ إبطال الإصرار مأمور به لأنّه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه ،فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلاً لأمر شرعي ،فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنّه صار بمعنى الإجزاء ،ونحن نقطع بأنّ من أتى عَملا مأموراً به بشروطه الشرعية كان عمله مقبولاً بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه ،ولكن بمعنى الظنّ في حصول الثواب على ذلك .ولعلّ هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ قال في كتاب التوبة « إنّك إذا فهمت معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلّ توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خُلق سليماً في الأصل ،إذ كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غيرة الذنوب ،وأنّ نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثواب الوسخ .
فمن توهّم أنّ التوبة تصحّ ولا تقبل كمن توهّم أنّ الشمس تطلع والظلام لا يزول ،أو أنّ الثوب يغسل والوسخ لا يزول ،نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع ،فذلك كقول القصّار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظّف الثوب » .وهذا الكلام تقريب إقناعي .وفي كلامه نظر بيِّن لأنّا إنّما نبْحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يَمْحُوها .
والإشارة في المسند إليه في قوله:{ فأولئك يتوب الله عليهم} للتنبيه على استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدّمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى طلب مرضاته ،ليعرف أنّهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة ،نظير قوله تعالى:{ أولئك على هدى من ربهم}[ البقرة: 5] والمعنى: هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقّين قبول التوبة منهم ،وهو تأكيد لقوله:{ إنما التوبة على الله} إلى آخره .
وقوله:{ وليست التوبة} إلخ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي تكون عند اليأس من الحياة لأنّ المقصد من العزم ترتُّب آثاره عليه وصلاح الحل في هذه الدار بالاستقامة الشرعية ،فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة .
وقوله:{ ولا الذين يموتون وهم كفار} عطف الكفّار على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأنّ إيمان الكافر توبة من كفره ،والإيمان أشرف أنواع التوبة ،فبيَّن أنّ الكافر إذا مات كافراً لا تقبل توبته من الكفر .
وللعلماء في تأويله قولان: أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توبته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت ،وتأوّلوا معنى{ وليست التوبة} له بأنّ المراد بها ندمُهُ يوم القيامة إذا مات كافراً ،ويؤخذ منه أنّه إذا آمن قبل أن يموت قُبل إيمانه ،وهو الظاهر ،فقد ثبت في « الصحيح »: أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعندَه أبو جهل ،وعبد الله بن أبي أمية فقال: أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحَاجّ لك بها عند الله .فقال أبو جهل وعبد الله: أترغب عن ملّة عبد المطلب .فكان آخر ما قال أبو طالب أنّه على ملّة عبد المطلب ،فقال النبي: لأستغفرنّ لك ما لم أنْهَ عنك .فنزلت{ ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم}[ التوبة: 113] ويؤذن به عطف{ ولا الذين يموتون وهم كفار} بالمغايرة بين قوله:{ حتى إذا حضر أحدهم الموت} الآية وقوله:{ ولا الذين يموتون وهم كفار} .
وعليه فوجه مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي أنّ الإيمان عمل قلبي ،ونطق لساني ،وقد حصل من الكافر التائب وهو حي ،فدخل في جماعة المسلمين وتقوّى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر .
وثانيهما: أنّ الكافر والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة ممّا هما عليه ،إذا حضرهما الموت .وتأوّلوا قوله:{ يموتون وهم كفار} بأنّ معناه يُشرفون على الموت على أسلوب قوله{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا}[ النساء: 9] أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرّيّة .والدّاعي إلى التأويل نظم الكلام لأنّ ( لا ) عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية ،فيصير المعنى: وليست التوبة للذين يموتون وهم كفّار فيتوبون ،ولا تعقل توبة بعد الموت فتعيّن تأويل ( يموتون ) بمعنى يشرفون كقوله{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم}[ البقرة: 240] ،واحتجّوا بقوله تعالى في حقّ فرعون{ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}[ يونس: 90 ،91] المفيد أنّ الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ .وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأنّ ذلك شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنّه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلاّ قوم يونس قال تعالى:{ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}[ يونس: 98] فالغرق عذاب عذّب الله به فرعون وجنده .
قال ابن الفرس ،في أحكام القرآن: وإذا صحّت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها ،وإن كانت عن سواه من المعاصي ؛فمن العلماء من يقطع بقبولها ،ومنهم من لم يقطع ويظنّه ظنّا اهـ .