{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} .
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيساً واستطراداً ،وبدءا وعودا ،وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله:{ يا أيها الذين آمنوا} للتنويه بما خوطبوا به .
وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة ،فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه ،فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه ،والوليّ كذلك ،وولاة الأمور كذلك .
وصيغة{ لا يحل} صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ،فنفيه يرادف معنى التحريم .
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ،وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ،ويطلق الإرث مجازاً على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه ،أو في حالة ادّعاء المشارك فيه ،ومنه{ يرث الأرض ومَن عليها} ،وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث ،فتقول: ورثت مال فلان ،وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ،يقال: ورث فلان أباه ،قال تعالى:{ فهب لي من لدنك وليا يرثني}[ مريم: 6] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال .
فتعدية فعل{ أن ترثوا} إلى{ النساء} من استعماله الأوّل: بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ،لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية .أخرج البخاري ،عن ابن عباس ،قال: « كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها ،وإن شاءوا زوّجوها ،وإن شاءوا لم يزوجوّها ،فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية » وعن مجاهد ،والسدّي ،والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه ،فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها ،وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها .وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنّه لمّا مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه: العيص ،وأبو العيص ،والعاص ،وأبو العاص ،وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ،فولدت له: مُسافراً ،وأبا معيط ،فكان الأعياص أعماماً لمسافر وأبي معيط وأخوتهما من الأمّ » .
وقد قيل: نزلت الآية لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوّج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ،فنزلت هذه الآية .قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ،وكانت في قريش مباحة مع التراضي .وعلى هذا التفسير يكون قوله{ كرهاً} حالا من النساء ،أي كارهات غير راضيات ،حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجاً لمن يرضينه ،مع مراعاة شروط النكاح ،والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت .
وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالؤوا عليها ،بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ،لأصبحت سبّة لها ،ولما وجدت من ينصرها ،وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ،أي أزواج الأموات .
ويجوز أن يكون فعل ( ترثوا ) مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية: منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ ،وهنّ يرغبن أن يتزوّجن ؛ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبَون أن يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ ،فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية ،إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ،وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ،وقرأ الجمهور: كرها بفتح الكاف وقرأه حمزة ،والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان .
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن}
عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة ،وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ .
والعضل: منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج ،وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى:{ فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} في سورة البقرة[ 232] .
فإن كان المنهي عنه في قوله:{ لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} هو المعنى المتبادر من فعل ( ترثوا ) ،وهو أخذ مال المرأة كرها عليها ،فعطف{ ولا تعضلوهن} إمّا عطف خاصّ على عامّ ،إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية ،رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها ،أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها ،وأيّامّا كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج .
وإن كان المَنهي عنه في قوله:{ لا يحل لكم أن ترثوا النساء} المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثاً ،وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف{ ولا تعضلوهن} عطف حكم آخر من أحوال المعاملة ،وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها ،ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله:{ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} راجعاً إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة ،وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة ،كقوله:{ ولا تقتلوا أنفسكم}[ النساء: 29] أي لا يقتل بعضكم أخاه ،إذ قد يعرف أنّ أحداً لا يقتل نفسه ،وكذلك{ فسلموا على أنفسكم}[ النور: 61] أي يسلم الداخل على الجالس .فالمعنى: ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم ،كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها ،فيكون في الضمير توزيع .
وإطلاق العضل على هذا المعنى حقيقة .والذهاب في قوله:{ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} مجاز في الأخذ ،كقوله:{ ذهب الله بنورهم}[ البقرة: 17] ،أي أزاله .
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}
ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضاً ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر .فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناءً من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي ،وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتَوْهُنّ ،لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال ،أي إلاّ حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ .ويحتمل أن يكون استثناء منقطعاً في معنى الاستدراك ،أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يُحِلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ،فقيل: هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ .وهو قول عطاء .
والفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا ،أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها ،فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها ،لأنّها تسبّبت في بَعْثَرة حال بيت الزوج ،وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى ،وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان .فإنْ حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ .وإنّما لم يَجْعل المفاداةَ بجميع المهر لئلا تصير مدّةُ العصمة عريَّة عن عوض مقابل ،هذا ما يؤخذ من كلام الحَسن .وأبي قلابة ،وابن سيرين وعطاء ؛لكن قال عطاء: هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان ،فحرّم الإضرار والافتداء .
وقال ابن مسعود ،وابن عباس ،والضحّاك ،وقتادة: الفاحشة هنا البغض والنشوز ،فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها .قال ابن عطيّة: وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلاّ أني لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية .
وقرأ الجمهور: مبيِّنة بكسر التحتية اسم فاعل من بيَّن اللازم بمعنى تبيَّن ،كما في قولهم في المثل « بَيَّنَ الصبحُ لذي عَيْنَيْن » .وقرأه ابن كثير ،وأبو بكر عن عاصم ،وخلَف بفتح التحتية اسم مفعول من بيَّن المتعدي أي بيَّنها وأظْهَرَها بحيث أشْهَدَ عَليهنّ بها .
{ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}
أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرارِ بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ،فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ،لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ،وزائد بمعاني إحسان الصحبة .
والمعاشرة مفاعلة من العِشْرة وهي المخالطة ،قال ابن عطية: وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ،أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة .وأنَا أراها مشتقّة من العشِيرة أي الأهل ،فعاشَره جَعَلَه من عشيرته ،كما يقال: آخاه إذا جعله أخاً .أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها .وقد قيل: إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر .
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكراً لأنّ النفوس لا تأنس به ،فكأنّه مجهول عندها نَكِرة ،إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروهاً ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ،وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس .والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف .
والتفريع في قوله:{ فإن كرهتموهن} على لازم الأمر الذي في قوله:{ وعاشروهن} وهو النهي عن سوء المعاشرة ،أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية .وجملة{ فعسى أن تكرهوا} نائبه مناب جواب الشرط ،وهي عليه له فعلم الجواب منها .وتقديره: فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ،لأن قوله{ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً} يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سببَ خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق .
و{ عَسَى} هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي .و{ أن تكرهوا} سادَ مسدّ معموليها ،{ وَيَجْعَلَ} معطوف على{ تكرهوا} ،ومناط المقاربةِ والرجاءِ هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ،بدلالة القرينة على ذلك .
وهذه حكمة عظيمة ،إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي .وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيراً لكنّه لم يظهر للناس .قال سهل بن حنيف ،حين مرجعه من صفّين « اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتُنا يَوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمْره لردَدْنا .واللَّه ورسولُه أعلم » .وقد قال تعالى ،في سورة البقرة{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم}[ البقرة: 216] .
والمقصود من هذا: الإرشادُ إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء ،وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة .ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم ،حتّى يسبره بمسبار الرأي ،فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سُوء خفايا الباطن .
واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير ،دون مقابلة ،كما في آية البقرة ( 216 ){ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطَرفيها إذ المخاطبون فيها كَرِهوا القتال ،وأحبّوا السلم ،فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم ،وخضد شوكة العدوّ ،وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم ،وطمعهم فيهم ،وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم ،أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كَرّهه فيها ،ورام فراقها ،وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها ،فكان حاله مقتضياً بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات ،ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شروراً لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم .وأُسند جعل الخير في المكروه هُنا للَّه بقوله:{ ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} المقتضى أنه جَعْل عارض لمكروه خاصّ ،وفي سورة البقرة ( 216 ) قَال:{ وهو خير لكم} لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة ،ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجَعْل عارض ،بخلاف هذه الآية ،فإنّ الصبْر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها ،يكون جعل الخير في ذلك جزاءً من الله على الامتثال .