قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) .
تبين الآية الصورة البائسة التي كانت تعيشها المرأة قبل الإسلام .كانت تعيش بغير كرامة أو اعتبار ،وكانت تلاقي من العنت والقهر ما يثير السخط والحزن .ولقد كان العرب الجاهليون إذا مات الرجل بات أولياؤه أحق بامرأته فإن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من نفسها وأهلها فنزلت هذه الآية .وقيل: كانت المرأة إذا مات زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبا كان أحق الناس بها فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها إياه الميت فنزلت الآية{[714]} .وفي قوله: ( أن ترثوا النساء ) ما يوحي بفقدان المرأة لكرامتها في الجاهلية فقد كانت غير ذات اعتبار حتى لكأنها سلعة تقتنى وتورث فنهى الله سبحانه عن ذلك ليبدد عن الأذهان أنها سلعة أو مال فيورث ،وإنما هي إنسان كالذكر لا تفضيل ولا تمييز بينهما إلا بالتقوى .قوله: ( كرها ) بالفتح أي بالإكراه ،منصوب على المصدر في موضع الحال .أي لا تأخذوا النساء على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات .وقوله: ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) العضل معناه المنع والحبس .وقيل: القهر والتضييق .وكلها معان متقاربة في دلالتها على المقصود من الآية .فالله سبحانه ينهى عن مضارة النساء في العشرة وقهرهن ليتركن ما لهن أو ما بحوزتهن من صداق أو حق فيقدمنه لأزواجهن ليفارقوهن .وذلك تصرف ينطوي على القسوة والفظاظة ويلحق بالمرأة ظلما قد حرمته الشريعة ونهت عنه أشد النهي .فإن من الظلم المحرم أن يقهر الرجل زوجته بالأذى وسوء العشرة مما يضطرها للمبادرة بافتداء نفسها بما عندها من صداق تؤديه لزوجها الكاره لها أو بما كان لها من الحقوق في ذمته .ليس للأزواج أن يقترفوا شيئا من ذلك إلا إذا اقترفت النساء فاحشة مبينة .وقيل المقصود بالفاحشة الزنا .فالزوجة إذا زنت فلا بأس أن يشق الزوج عليها حتى تفتدي منه .وعند الإمام مالك أن المقصود بالفاحشة المبينة هو النشوز وبذاءة اللسان وسوء العشر فعلا أو قولا .
وقوله: ( وعاشروهن بالمعروف ) أي لتكن عشرة الأزواج لهن على نحو ما أمر الله من الحُسن وكريم الخطاب والمعاملة فلا تكونوا معهن أفظاظا غلاظا لغير ذنب .والمعاشرة هي المخالطة{[715]} .وبهذا يوجب الإسلام ان تحاط الزوجة بالعناية والاهتمام والتكريم والنصفة ؛كيلا يمسها بعد ذلك حيف أو إساءة يجنيهما في حقها الرجل .
قوله: ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) قد يكره الرجل زوجته فلا يستبقي لها في قلبه شيئا من مودة كأن يكون ذلك لدمامتها أو سوء خلق فيها من غير أن يكون ذلك فاحشة أو نشوزا ،فإن كان كذلك فإنه يندب للرجل أن يحتمل ويصير فعسى أن يؤول ذلك إلى خير لا يعلمه هو حال نفوره وكراهيته .ومن يدري فلعل الله يرزقه منها الذرية الصالحة تقر بهم عينه ويطمئن لهم قلبه ومن خير ما يرد في هذا الصدد قول النبي ( ص ):"لايفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر "يفرك بفتح الراء يعني يبغض .أي لا يبغض زوج زوجته بغضا يحمله على فراقها بل عليه أن يحتملها ويصبر عليها ويتغاضى عن سيئتها لحسنتها فإن كان فيها ما يكره فإن فيها ما يحب من خلق .قال مكحول: سمعت عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له .خير بكسر الخاء ومعناها: كان خيرا له .
وفي هذا القول نقف على دليل يبين كراهة الطلاق وإن كان مباحا .وقد قال النبي ( ص ):"إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليكره المعي إذا امتلأ "{[716]} .