( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) .
قالوا في وجه اتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها من أول السورة لما نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن نوع من الاستنان بسننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن .
وقال الأستاذ الإمام:وجه الاتصال ظاهر وهو أن الكلام من أول السورة في النساء والبيوت وإنما جاء ذكر التوبة استطرادا .وأما ما ورد في سبب نزولها فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال"كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه وترك جارية ألقى عليها ابنه أو حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت ذميمة حبسها حتى تموت فيرثها "وفي رواية البخاري وأبي داود"كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك "وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال"نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليه ابنه ، فجاءت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت:لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح .فنزلت "وروي مثله عن أبي جعفر .وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال:كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله ، فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك .وروي عن الزهري:أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة لها بها وينتظر موتها يرثها .
قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) أي لا يحل لكم أيها الذين خرجوا من الشرك وتقاليده الجائرة وآمنوا بالله وبما أنزل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تستمروا على سنة الجاهلية في هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعروض والعبيد وتتصرفوا بهن كما تشاؤون فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه وإن شاء زوجها غيره وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج وذلك هو العضل الآتي ذكره .وقيل:المراد لا يحل لكم أن ترثوا أموال النساء كرها بأن تمسكوهن على كره لأجل أن يمتن فترثوهن وقوله"كرها "قرأه حمزة والكسائي بالضم حيث وقع ووافقها عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف وقرأه الباقون بالفتح .وهو بالضبطين مصدر لكره ضد أحب ( كما ورد الضعف بضم الضاد وفتحها ) وقيل الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية وقيل يطلق كل منهما على المكروه وعلى ما أكره المرء عليه .ولذلك اختلفوا في تفسير الكره هنا فقيل معناه لا ترثوهن حال كونهن كارهات لذلك ، وقيل حال كونهن مكرهات عليه ، وقيل حال كونهن كارهين لكم ، وقيل حال كونكم مكروهين لهن .وكل هذه المعاني صحيحة ، ولفظ الكره ليس قيدا للتحريم وإنما هو بيان للواقع قال الأستاذ الإمام:كانت العرب تحتقر النساء وتعدهن من قبيل المتاع والعروض حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله فحرم الله هذا العمل من أعمال الجاهلية .ولفظ الكره هنا ليس قيدا وإنما هو بيان للواقع الذي كانوا عليه فإنهم كانوا يرثونهن بغير رضاهن .
( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أصل"العضل "التضييق والمنع والشدة ومنه الداء العضال أي الشديد الذي لا منجاة منه .والجملة مستأنفة للنهي عن العضل أو معطوفة على ما قبلها بناء على أنه في معنى النهي كما هو مفهوم التحريم ، كأنه قال لا ترثوا النساء ولا تعضلوهن .ويجوز أن تكون"لا "لتأكيد النفس و "تعضلوهن "معطوف على"لا ترثوا "والمعنى لا يحل لكم إرث النساء ولا عضلهن أي ولا التضييق عليهن لأجل أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي أعطيتموهن من ميراث أو صداق أو غير ذلك .والخطاب لمجموع المؤمنين لتكافلهم فيصدق بما أعطوه للنساء من ميراث ومهر زواج وغير ذلك ، وجعله بعضهم للأزواج وبعضهم للورثة وكل منهم كان يعضل النساء .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها .وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال ، وليراجع تفسير قوله تعالى:( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) [ البقرة:132] وقوله:( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) [ البقرة:229] وغير ذلك .وخص الآية في الجلالين بالمنع من الزواج ورده الأستاذ الإمام قال:ليس معنى العضل هنا ما قاله المفسر ( الجلال ) من أنه المنع من زواج الغير بل معناه لا تضاروهن ولا تضيقوا عليهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدي بما كانت ورثت من قريب الوارث أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو المجموع من هذا وذاك وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها وذلك هو العضل المحرم هنا .أقول وروي نحو من هذا عن أبي جعفر ( رضي الله عنه ) وكثير من المفسرين .وأقول قد تقدم أنهم كانوا لا يورثون المرأة فليراجع تفسير ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) من هذا الجزء وهذه السورة وكذلك أسباب الإرث عند الجاهلية في أول تفسير آيتي المواريث .
( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) الفاحشة الفعلة الشنيعة الشديدة القبح وكلمة"مبينة "قرأها ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء المشددة أي بصيغة اسم المفعول والباقون بكسرها أي بصيغة اسم الفاعل أي ظاهرة متبينة أو مبينة حال صاحبها فاضحة له .وقد ورد بين بمعنى تبين اللازم .روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أن الفاحشة المبينة هنا هي النشوز وسوء الخلق .قال بعضهم ويؤيد ذلك قراءة أبي"إلا أن يفحشن عليكم "وروي عنه وعن ابن مسعود أنهما قرآ"إلا أن يفحشن "دون لفظ"عليكم "وعندي أنهما ذكرا الآية بالمعنى فظن السامع أنهما رويا ذلك قراءة فعنيا لفظ القرآن .وعن الحسن وغيره أنها الزنا .ويجوز أن يراد بها ما هو أعم من الأمرين .والمعنى لا تعضلوهن في حال من الأحوال أو في زمن من الأزمان إلا الحال أو الزمن الذي يأتين فيه بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة فإذا نشزن عن طاعتكم بالمعروف المشروع ولم ينفع معهن التأديب الذي سيذكر في آية أخرى من هذه السورة وساءت عشرتهن لذلك أو تبين ارتكابهن للزنا أو السحاق فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره إذ لا يكلفكم الله أن تخسروا عليهن ما لكم في هذه الحالة التي يجيء فيها الفحش من جانبهن كما في الآية الأخرى:( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) [ البقرة:229] وقد أشرنا إليها آنفا .
الأستاذ الإمام:روي عن بعض مفسري السلف أن الفاحشة هنا هي الزنا وعن بعضهم أنها النشوز وعن بعضهم أنها الفحش بالقول .والصواب عدم تعيينها وتخصيصها بأحد هذه الأمور بل تبقى على إطلاقها فتصدق بالسرقة أيضا فإنها من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس ولكن يعتبر فيها هذا الوصف المنصوص وهو أن تكون مبينة أي ظاهرة فاضحة لصاحبها وإنما اشترط هذا القيد لئلا يظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة واللمم ، أو بمجرد سوء الظن والتهم ، فمن الرجال الغيور السيء الظن يؤاخذ المرأة بالهفوة فيعدها فاحشة .وقد حرم الله المضارة لأجل أن يأخذ الرجل منها بعض ما كان آتاها من صداق أو غيره فعلم منه أن المضارة لأخذ جميع ذلك أو أكثر منه حرام بالأولى .وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بالفاحشة المبينة لأن المرأة قد تكره الرجل وتميل إلى غيره ، فتؤذيه بفحش من القول والفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان آتاها وتتزوج آخر تتمتع معه بمال الأول وربما فعلت معه بعد ذلك كما فعلت بالأول .وإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هن أهنهم بارتكاب الفاحشة المبينة فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل الكسب .
( وعاشروهن بالمعروف ) أي يجب عليكم أيها المؤمنون أن تحسنوا عشرة نسائكم بأن تكون مصاحبتكم ومخالطتكم لهن بالمعروف الذي تعرفه وتألفه طباعهن ولا يستنكر شرعا ولا عرفا ولا مروءة .فالتضييق في النفقة والإيذاء بالقول أو الفعل وكثرة عبوس الوجه وتقطبيه عند اللقاء كل ذلك ينافي العشرة بالمعروف .وفي المعاشرة معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك .وروي عن بعض السلف أنه يدخل في ذلك أن يتزين الرجل للمرأة بما يليق به من الزينة لأنها تتزين له ، والغرض أن يكون كل منهما مدعاة سرور الآخر وسبب هنائه في معيشته ، وقد فسر المعروف بعضهم بالنصفة في القسم والنفقة والإجمال في القول والفعل ، وفسره بعضهم تفسيرا سلبيا فقال هو أن لا يسيء إليها ولا يضرها ، وكل منهما ضعيف .وجعل الأستاذ الإمام المدار في المعروف على ما تعرفه المرأة ولا تستنكره وما يليق به وبها بحسب طبقتهما في الناس وقد أشرنا إلى ذلك .وأدخل فيه بعضهم وجوب الخادمة لها إن كانت ممن لا يخدمن أنفسهن وكان الزوج قادرا على أجرة الخادمة .وقلما يقصر المسلمون فيما يجب للنساء من النفقة بل هم أكثر أهل الملل إنفاقا على النساء وأقلهم إرهاقا لهن بالخدمة ولكنهم قصروا في أمور أخرى:قصروا في إعداد البنات للزوجية الصالحة بما يجب من التربية الاجتماعية الاقتصادية الصحية والتعليم المغذي لهذه التربية فعسى أن يرجعوا عن قريب .
( فإن كرهتموهن ) لعيب في الخلق مما لا يعد ذنبا لهن لأن أمره ليس في أيديهن ، أو التقصير في العمل الواجب عليهن في خدمة البيت والقيام بشؤونه مما لا يخلو عن مثله النساء وكذا الرجال في أعمالهم أو الميل منكم إلى غيرهن فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن لأجل ذلك:( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) فهذا الرجاء علة لما دل عليه السياق من جزاء الشرط .ومن الخير الكثير بل أهمه وأعلاه الأولاد النجباء فرب امرأة يملها زوجها ويكرهها ثم يجيئه منها من تقربه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك ، وقد شاهدنا وشاهد الناس كثيرا من هذا وناهيك به ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ):
نعم الإله على العباد كثيرة *** واجلهن نجابة الأولاد
ومنها أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون أعظم أسباب هنائه في انتظام معيشته وحسن خدمته لا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز ، فكثيرا ما يكره الرجل امرأته لبطره بصحته وغناه واعتقاده أنه قادر على أن يتمتع بخير منها وأجمل ، فلا يلبث أن يسلب ما أبطره من النعمة ويكون له منها إذا صبر عليها في أيام البطر ، خير سلوى وعون في أيام المرض أو العوز ، فيجب على الرجل الذي يكره زوجه أن يتذكر مثل هذا ويتذكر أيضا أنه لا يخلو من عيب تصبر امرأته عليه في الحال ، غير ما وطنت نفسها عليه في الاستقبال ، وقد بينا حاجة كل من الزوجين إلى مودة الآخر ورحمته ولا سيما في حال الضعف والعجز في مقالات ( الحياة الزوجية ) فتراجع في المجلد الثامن من المنار وربما نودع ذلك في تفسير قوله تعالى:( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم:20] .
هذا وإن التعليل في الآية يرشدنا إلى قاعدة عامة تأتي في جميع الأشياء لا في النساء خاصة وهي أن بعض ما يكرهه الإنسان يكون فيه خير له متى جاء ذلك الخير تظهر قيمة ذلك الشيء المكروه ، وهي قاعدة عرف العقلاء صدقها بالتجارب .ولأجل التنبيه لها قال تعالى:( وعسى أن تكرهوا شيئا ) ولم يقل وعسى أن تكرهوا امرأة .ثم إن في الصبر على المكروه واحتماله فوائد أخرى غير ما يمكن أن يكون في المكروه نفسه من الخير المحبوب .فالصابر المتحمل يستفيد من كل مكروه بصبره ورويته سواء ترتب عليه في ذاته خير أم لا .ومن المكروه الذي يترتب عليه خير القتال بالحق لأجل حماية الحق والدفاع عنه فهو بما فيه من المشقة مكروه طبعا ، وناهيك بما يترتب عليه من إظهار الحق ونصره وظهور أهله وخذلان الباطل وحزبه ( راجع تفسير ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) [ البقرة:216] وللأستاذ الإمام كلام حسن هناك في ذلك وليس عندنا شيء عنه في هذه الآية .والحاصل أن الإسلام يوصي أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج رجاء أن يكون فيهن خير .وإنما يبيح مؤاخذتهن بما تقدم من العضل حتى يفتدين بالمال إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا لمهانة الرجل واحتقاره ، أو إذا خافا أن لا يقيم حدود الله كما في آية البقرة .وإلا وجب على الزوج إذا طلق امرأته أن يعطيها جميع حقها وذلك قوله عز وجل:( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) .