( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) قال الأستاذ الإمام:قال تعالى في الآية السابقة"إنما التوبة على الله "ولم يقل هنا"وليست التوبة على الله "الخ وذلك أنه ليس المراد نفي القطع بقبول توبتهم ، وإنما المراد نفي وقوع التوبة الصحيحة منهم وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم ، ولو نفى كونها مما أوجبه تعالى على نفسه لكان المعنى أنها غير واجبة لهم ولا مقطوع بقبولها منهم ولكنهم قد ينالونها .
وأقول:إن وجه النفي هو أن هؤلاء الذين نفى ثبوت التوبة لهم ليسوا ممن اقتضت السنن الإلهية في خلق الإنسان وتأثير أعماله في صفات نفسه وملكاتها ثم ترتب أعماله على أخلاقه وملكاته- بأن يكونوا ممن يرجع عن السيئات بعد الاستمرار عليها وينخلع عنها ويطهر قلبه ويزكي نفسه من أدرانها فيكون أهلا لرحمة الله أن تعطف عليه ومحلا لاستجلاب نعمه فيعود ما نفر منها بالمعاصي إليه ؛ بل مضت سنة الله تعالى في أمثالهم أن تحيط بهم خطاياهم وسيئاتهم فلا تدع للطاعات والحسنات مكانا من نفوسهم ، فيصرون عليها إلى أن يحضر أحدهم الموت وييئس من الحياة التي يتمتع فيها بما كان يتمتع ، فعند ذلك يقول إني تبت وما هو من التائبين ، بل من المدعين الكاذبين ، كما يأتي قريبا .
قال الأستاذ:وقال هناك:"يعملون السوء "وههنا"يعملون السيئات "والجمع ههنا يعم جميع أفراد النوع الواحد من المعاصي التي تكون بالإصرار والتكرار ، فالمصر على ذنب واحد من الذين يعملون السيئات حتما ، ويعم جميع الأنواع المختلفة منها .وأقول:إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها أو جنسها ، والشر داعية الشر ، كما أن الخير داعية الخير .
( قال ):وقال هناك"ثم يتوبون "فأسند التوبة إليهم وقال ههنا"قال إني تبت الآن "فبين أن واحد هؤلاء يدعي التوبة عند العلم بالعجز عن الذنب ، أي إن قلبه لم ينخلع من الذنب ونفسه لم ترغب عنه فيكون تائبا ، وإنما مثله كمثل رجل كان يعيث في أرض آخر فسادا فظفر به هذا ووضع السيف على عنقه وأراد أن يفصل رأسه عن بدنه ، فاستغاث وقال:إنه لا يعود إلى ذلك الإفساد ؛ ولكن نفسه لم تنفر منه ولم تستقبحه لأنه فساد ، فهي إذا زال الخوف تعود إلى الدعوة إليه ولا تلقى من صاحبها إلا الطاعة والانقياد ، ولهذا قيد القول بكلمة"الآن "والآنية تنافي الاستمرار الذي دل عليه المضارع"يتوبون "هناك .ومن هنا يمكننا أن نميز الحق من بين تلك الأقوال التي رووها في حضور الموت ، كقولهم إن المراد به حال الحشرجة أو الغرغرة أو ذهاب التمييز والإدراك ومن كان من مثل هذه الأحوال لا يصدر عنه قول .والمختار أن المراد بحضور الموت هو تحقق وقوعه واليأس من الحياة . "وحتى "ابتدائية وما بعدها غاية لما قبلها أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور موتهم وصدور ذلك القول منهم .وأقول:وقدر بعض المفسرين قيد"على الله "فقال المعنى وليست التوبة أي قبولها حتما لهؤلاء ونفي الله تعالى .وما اختاره شيخنا هو الصحيح المتبادر .
ثم قال إنهم يروون هنا أحاديث في قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم وإني أوافقهم على ذلك إذا حصلت التوبة بالفعل بأن أدرك المذنب قبح ما كان عمله من السيئات ، وكرهه وندم على مزاولته وزال ميله إليه من قلبه ، بحيث لو عاش لما عاد إليه مع الروية والتعمد كما كان .وما كل تصور لقبح الذنب أو تصديق بقبحه وضرره يكون سببا لتركه فإن للتصورات والتصديقات مراتب لا يعتد منها في باب العلم النافع إلا بالقوي الذي يترتب عليه العمل لرجحانه على مقابله .وضرب مثلا للتصديق المرجوح:تصديقه ما قاله الأطباء له من أن صوته يضره الحامض وقد أيدت التجربة ذلك وهو مع ذلك لا يعده علما يقينيا تاما لأنه مغلوب بعلم وجداني أقوى منه وهو ما ألفت النفس من إدراك لذة الحامض وطلب الطبيعة له ولو كان علما تاما لما تناول الحامض في بعض الأوقات فإن العلم الحقيقي هو الذي يحكم على الإرادة ويصرفها في العمل فلا تجد عن طاعته منصرفا .
قال وهذا المعنى هو الذي أدركه الصوفية إذ قالوا إن الاعتقاد أو الإدراك لا يكون علما صحيحا نافعا يثيب الله عليه إلا إذا صار ذوقا ، ويعنون بصيرورته ذوقا أن يصير وجدانا للنفس يمتزج بها ويكون هو الحاكم عليها .فليت شعري هل يحدث للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة مثل هذا الوجدان لقبحها وكراهتها قبل الموت من حيث إنها مدنسة للنفس مبعدة لها عن منازل الأبرار أم الذي يحصل هل هو إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها بالموت الذي يكون وراءه نزول الوعيد به ؟ وهل يسمى هذا الأخير توبة من الذنب ، ورجوعا إلى ما يرضاه الرب ؟ الله أعلم بالسرائر ، وإنما يجازي الناس بحسب ما يعلم ؛ وعلينا أن نأخذ بالأحوط والأسلم ؛ وهذا معنى ما قاله الأستاذ رحمه الله في درسين وهو مع تفسير الآية الأولى لا يخلو من تكرار مفيد على تصرفنا فيه بالتقديم والتأخير والحذف والزيادة التي تجلي المعنى ولا تغيره .والوصول إلى تحقيق الحق في أمثال هذه المسائل المهمة لا يكون إلا بالتكرار والبسط والإيضاح ، وسيأتي ذكر للتوبة وشروطها في آيات أخرى من سورة أخرى تقدم ذكرها من قبل .
قال تعالى:( ولا الذين يموتون وهم كفار ) أي لا توبة لأولئك ولا لهؤلاء .وقد استشكلوا ذكر نفي توبة هؤلاء مع كونه بديهيا لاسيما بعد تقرير ما سبقه فإنه إذا كان المؤمن ليس له توبة عند حضور الموت فالأولى أن لا يكون للكافر عند الموت فكيف يتصور أن يكون له توبة بعده ، وقد يخطر في البال أن المراد نفع ما يكون من توبتهم في الآخرة وهي ما حكاه تعالى عنهم في آيات كثيرة:( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ) [ المؤمنون:106] ولا أتذكر الآن أن أحدا من المفسرين قال بذلك ، بل قال بعضهم إن المراد من نفي توبة هؤلاء هو المبالغة في عدم قبول توبة من قبلهم والإيذان بأنها كالعدم وأن ذويها في مرتبة الذين يموتون وهم كفار ؛ بل قال بعضهم إن في تكرير حرف النفي إشعارا بكون حال المسوفين في عدم استتباع الجدوى أقوى .من حال الذين يموتون على الكفر .وجوز بعضهم أن يراد بالفريقين الكفار ، وبعضهم أن يراد بهما الفساق على أن يكون التعبير عنهم بالكفار من باب التغليظ .
واختار شيخنا أن المراد بالكفر هنا ما هو دون الشرك .وعدم تصديق دعوة النبوة وهو استعمال معروف في القرآن وصرح به بعض العلماء الأعلام وقالوا أنه يوجد كفر دون كفر ، وبه فسر أبو حامد الغزالي الحديث الصحيح"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن "{[441]} فقد بين ان ما يجب الإيمان به قسمان:قسم يجب أن يعلم لذاته ولا يتعلق به عمل كالإيمان بوجود الله وبوحدانيته وسائر ما وصف به نفسه وبالوحي وصدق الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وقسم يجب أن يعلم ليعمل به كالإيمان بالفرائض وكون أدائها من أسباب رضوان الله ومثوبته وبتحريم المحرمات وكون اقترافها من أسباب سخطه تعالى وعقابه أي فوق ما في الفرائض من إصلاح النفس وحال الاجتماع ، وما في المحرمات من الضرر في الأفراد والجمعيات ، ويسمي أو حامد القسم الأول علم المكاشفة والثاني:علم المعاملة ؛ ويقول:إن من يعمل السيئة المحرمة لا يكون مؤمنا بتحريمها وصدق الرسول فيما أخبر به من كونها موجبة لسخط الله تعالى وعذابه وهوأي الغزاليلا ينفي إيمان هذا من حيث أنه قد فاتته ثمرته وهي العمل به فقط ، بل يقول إن الإيمان يشترط فيه اليقين ، ومن أيقن بأن شيئا من الأشياء يضره فهو لا يأتيه كما هو معلوم عن غرائز البشر وارتباط أعمالهم بإرادتهم بعلومهم المتعلقة بالنفع والضرر ، بل علم من عادة الإنسان وطبعه أن يحتاط في دفع الضرر حتى أنه ليعمل فيه بقول من لا ثقة بقوله عنده لعدم عدالته .
وضرب لذلك أبو حامد مثلا فقال ما معناه:إذا كنت جائعا ولم تجد إلا طعاما أخبرك رجل يهودي لا تثق بروايته في أخباره أنه مسموم ؛ أفلا تبني على الاحتياط وتترك الأكل من ذلك الطعام ؟ بلى إنك لتقول إنه يحتمل أن يكون صادقا فلا أعرض نفسي للهلاك بهذا الطعام ! وقد أخبرك النبي المعصوم الصادق الأمين بأن هذه الذنوب سموم مهلكة للأرواح مفضية إلى سخط الله وعذابه فكيف تدعي الإيمان به والجزم بصدقه وأنت تجعل خبره دون خبر ذلك اليهودي الذي تجزم بعدم عدالته ! ؟ وفي هذا المقام يذكر حديث"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "{[442]} الخ أي إن هذا الإيمان الخاص لا يكون ملابسا للنفس حين التلبس بالمعصية فإذا عاد إليها بعد العمل تألمت فبعثها الألم على التوبة كما حققه في شرح حقيقة التوبة وكونها مركبة من علم وحال وعمل:العلم يوجب الحال والحال توجب العمل أي أن العلم بحرمة الذنب والوعيد عليه يحدث في النفس حالا مؤثرة تبعث على العمل بترك المحرم ، وكذلك العلم بوجوب الواجب إلى آخر ما حققه وبينه بالتفصيل ، فيراجع في كتاب التوبة من أول الجزء الرابع من الإحياء .
قال تعالى:( أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ) أي أولئك الفريقان البعيدان عن سنة الفطرة وهداية الشريعة ، المستعبدان لسلطان الشهوة وشيطان الرذيلة ، قد اعتدنا وهيأنا لهم عذابا مؤلما في دار الجزاء بما قدموا لأنفسهم في دار الأعمال ، فإن إصرارهم على السيئات ، إلى أن وافاهم الممات ، قد دسى نفوسهم ؛ وأفسد قلوبهم ، فصاروا من التحوت ، تهبط خطاياهم بأرواحهم إلى هاوية الهوان ، وتعجز عن العروج إلى فراديس الجنان ، ومعاهد الكرامة والرضوان .