أموال السفهاء
ويظل عالم الأسرة ،في علاقاتها المالية ،هو الجو الذي تعيش فيه السورة ؛فقد يبلغ الأيتام سن البلوغ ،ولا يملكون الرشد الفكري والعملي الذي يستطيعون من خلاله حِفْظَ أنفسهم وأموالهم من الضياع ،ففي هذه الحالة ،لا يجوز لنانحن ولاة أمرهمأن نمكٍّنهم من هذه الأموال التي جعلها الله لناكمجتمعمن أجل تدبير أمورنا وتركيز حياتنا في الموقع القوي الصحيح ،لأن المال يحرّك للإنسان حياته ،ويجعلها تقف على قدميها في ما تريد الوصول إليه من قضايا وأهداف .
وقد أضاف القرآن المال إلينا ،باعتبار أن للأولياء الحق في رعايتها ،أو باعتبار أن مال الفرد هو مال المجموع ،في ما يريد الله أن يوحيه من وحدة الأمة في جميع أمورها وشؤونها ؛على أساس أن المال لا يمثل امتيازاً ،بل يمثل وظيفةٌ ومسؤوليةً اجتماعيةً وأخلاقيةً .ثم تدعونا الآية إلى القيام بمسؤوليتنا في رعايتها وتنميتها وتدبير أمورها ،وأن نقول لهم قولاً معروفاً ،لا ينكرون منه شيئاً ،لأنه لا يسيء إلى كرامتهم ولا يثقل حياتهم ،بل يصل بهم الى الراحة والطمأنينة التي تدخل إلى قناعاتهم من أقرب طريق .
{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ} الذين لا يملكون الوعي الفكري الذي يفتح لهم اَفاق المعرفة للموارد التي يمكن لهم أن يحركوا فيها أموالهم من أجل حفظها من الضياع وتحقيق الأرباح من خلال ذلك ،ولا يتمتعون بالرشد العملي الذي يتيح لهم الممارسة العملية في الواقع التطبيقي لما يعرفون فيتركون للآخرين أن يخدعوهم ويستغلوا سذاجتهم وبساطتهم الاجتماعية من أجل أن يصرفوا أموالهم في غير وجهها الصحيح المنتج أو يضعوها في غير محلها تبذيراً تارةً وإسرافاً أخرى .
والخطابكما قيلقد يكون وارداً لمن في يده المال لكي لا يُمكِّن منه السفهاء ،وقد يكون وارداً للآباء الذين قد يُملِّكون أولادهم أموالهم في حياتهم فيوجهونها في غير مصلحتهم ،ثم يحتاجون إليها في زمن الشيخوخة فلا يعطونهم منها شيئاً ،ولكن ذلك بعيدٌ عن سياق الآية ،فهيعلى الظاهرموجهة للأولياء الذين يتولون أمور القاصرين ويحركون أموالهم ،فلا يمكنونهم منه إذا لم يكونوا في مرحلة الرشد .
{أَمْوَلَكُمُ} الظاهر أن المراد بها أموال اليتامى لورودها في مورد الحديث عنها على هذا ،وتكون المناسبة في نسبتها إلى المخاطبين بلحاظ أن الإسلام يرى في المجتمع وحدةً اقتصادية باعتبار الترابط العضوي في حركة المال في الواقع الاجتماعي العام ،مما يجعل من الخلل الذي يصيب جزءاً منه حالةً سلبيةً تؤثر على الأجزاء الآخرى ،الأمر الذي يفرض إيجاد نظامٍ اقتصاديّ في تحريك المال من حيث طبيعته الاقتصادية ومن حيث الأشخاص الذين يديرونه بحكمة وروية ،بحيث لا يؤدي ذلك إلى ضياعه أو تحوّله إلى مشكلةٍ معقدةٍ في الواقع الاجتماعي العام ،وربما كانت إشارةً إلى التعامل مع السفهاء بشكل عام ،فلا يُسلّمون الأموال التي للأولياء أو لغيرهم ،وتكون علاقة الآية بالأيتام باعتبار أن الأولياء أو الناس قد يريدون مساعدتهم في حياتهم بإيكال الأعمال التجارية إليهم ليستفيدوا منها بالأجرة التي يحصلون عليها من خلال العمل أو الأرباح التي يجنونها من خلال المشاركة في المضاربة ،فجاءت الآية لتنهى عن ذلك ،ولترشد الأولياء بالامتناع عن إعطائهم الأموال إذا كانوا لا يحسنون إدارتها ،انطلاقاً من الذهنية السفيهة التي تحكم ذهنيتهم كلها ،وليساعدوهم في ما يملكون إدارته من الأعمال البسيطة أو بالصرف عليهم ورزقهم وكسوتهم بالمعروف .
وفي ضوء ذلك ،يمكن استيحاء الآية في كل الحالات التي توكل فيها الأعمال إلى الأشخاص الذين لا يملكون توجيهها في الوجهة الصحيحة التي تنطلق نحوها ،مما يؤدي إلى فساد الأموال وتضييعها وإرباك الواقع العملي المتصل بمصالح الناس الخاصة والعامة ؛الأمر الذي يحتاج إلى دراية دقيقة في قابلية الشخص الذي يراد إيكال الأمر العملي إليه حتى لا يقع الناس في استعمال السفهاء في قضاياهم الحيوية كلها ،ولعل ما جاء في بعض أحاديث أهل البيت ما يؤكد هذا الاستيحاء ،فقد ورد في حديث الإمام محمد الباقر( ع ): «إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه:{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوالَكُمُ} فأي سفيه أسفه من شارب الخمر » .ويمكن استيحاء ذلك في كل الناس الذين يمارسون المعاصي التي يصرفون أموالهم فيها ،باعتبار أن ذلك يؤدي إلى صرف المال في غير حقه وتحريكه في غير موضعه ،مما يلتقي به مع السفيه الذي لا يتصرف في أمواله بحكمة ،لأن المسألة قد تتصل بالجانب المادي في خصوصية حركة المال في الوسائل المستعملة في تلبية الحاجات الخاصة ،وقد تتصل بالجانب السلوكي في استعمال المال في ما يضر صحته أو عقله أو حياته العامة والخاصة ،كمن يصرف ماله في القمار أو في الزنى أو في اجتذاب الناس إليه بما لا يحقق له شيئاً مما يريد .
وفي ضوء ذلك يمكن توسعة معنى السفيه إلى الدائرة التي يتمثل فيها التصرف المالي في نوعيّة التصرف في حاجاته بتحديد حاجاته المشروعة التي قد لا يلتفت الناس إلى سلبيات صرف المال فيها لأنهم لا يرون فيها أية مشكلة اقتصادية في حياته الخاضعة للحاجات الذاتية ،بينما يرى الشرع فيها صرفاً للمال في الموارد الضارة .
وإذا كانت المسألة متصلة بالواقع الخاص في المال الشخصي فقد تمتد إلى المال العام ليكون تسليط السفيه عليه أكثر خطورة لاتصاله بالواقع العام للناس .وتبقى مسألة التحريم والكراهية في ذلك تابعة للبحث الفقهي والله العالم .
{قِيَاماً} التي يقوم عليها أمر معاشكم وحياتكم الخاصة والعامة في تلبية حاجاتكم الحيوية ،فإن قيمة المال في وظيفته العملية التي يتحرك بها لتدبير أمور الإنسان التي ترتكز عليها حياته كالطعام والمشرب والملبس والمسكن والملذات الحيوية ولأهدافه العامة والخاصة ،لا في ذاته ،مما يجعله مسؤولية للإنسان لا امتيازاً له .
وهو في الوقت نفسه لا يمثل قيمة سلبية بالمعنى الديني كما يحاول أن يفهمه البعض من قول السيد المسيح( ع ) في إنجيل متى الإصحاح 23019: «فقال لتلاميذه: الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غنيّ إلى ملكوت السموات » ،فقد فهم منه هؤلاء أن السيد المسيح يرى الغنى حاجزاً بين الإنسان الغني وبين دخوله ملكوت الله الذي هو كناية عن القرب إلى الله في مواقع رضوانه ،ولكن الظاهر أن هذا الكلام وارد على سبيل الكناية في صعوبة الالتزامات الروحية والأخلاقية في القيم التي يحبها الله مما شرّعه لعباده ،لأن ضغط المال على الروح والإرادة من خلال إيحاءاته ونوازعه وامتداده ،قد يشكل خطراً كبيراً على واقع الإنسان الفكري والعملي ،مما يفرض عليه أن يعيش الحذر لإمكان تأثيره على نفسه وعلاقاته بالناس وبالحياة ،فلا يحركه في إفساد حياة الناس ،بل يعمل على الإحسان إليهم وإلى حياتهم العامة والخاصة من خلاله .
وهذا ما نستوحيه في الواقع الذي يعيشه الأغنياء مما تحدث به القرآن الكريم عن المترفين الذين أترفهم الله في الحياة الدنيا ،فاستخدموا ذلك بعيداً عن رضوان الله وعن مصلحة الناس والحياة .وعن قارون الذي قال الله عنه{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنوء بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [ القصص:7678] ،فقد لاحظنا أن هذا الرجل الذي ملك كل هذا المال عاش الإحساس الذاتي المستغرق في عناصر قوته بأنه هو الذي استطاع تحصيله بخبرته دون أن يكون لله دخل في ذلك بحيث ترك المال تأثيره على سلامة تصوره للأشياء ،فلم يدرس موقعه الإنساني من ربه وقدرته عليه كقدرته على الذين سبقوه في التاريخ ممن هم أشد منه قوة وأكثر جمعاً ،في الوقت الذي انطلق النص القرآني بلسان قومه في وظيفة المال في خط التوازن بين الدنيا والآخرة .
وقد ذكر صاحب مجمع البيان حديثاً عن كلمة «قياماً » لا بأس بالإشارة إليها: «قال أبو الحسن: في «قيام » ثلاث لغات: قيام وقيّم وقوام وهو الذي يقيمك ،قال لبيد:
أَفَتِلْكَ أم وَحْشِيّةٌ مَسْبُوعَةٌ خَذَلَتْ وهَادِيَةُ الصِّوار قِوَامَها
قال أبو علي: ليس قول من قال إن القيّم جمع قيمة بشيء ،إنما القيّم بمعنى القيام ،وهو مصدر يدل عليه قوله:{دِينًا قِيَماً} [ الأنعام:161] ،فالقيمة التي هي معادلة الشيء ومقاومته لا مذهب له ههنا ،إنما المعنى ديناً دائماً ثابتاً لا ينسخ كما نسخت الشرائع التي قبله ،فيكون مصدر وصف الدين به ولا وجه للجمع ههنا ولا للصفة لقلة مجيء هذا البناء في الصفة ،ألا ترى أنه إنما جاء في قولهم: قوم عدًى ومكان سوًى وفعل في المصادر كالشبع والرضا ونحوهما أوسع في الوصف ،فإذا كان كذلك حمل على الأكثر » .
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} ،واعملوا في تلبية حاجاتهم الحيوية من أموالهم التي هي تحت أيديكم من موقع الولاية عليهم أو من أموالكم التي تملكونها باعتبار مسؤوليتكم عنهم ،إما من خلال المسؤولية الخاصة إذا كانوا من أولادكم أو ممن تتصل حياتهم بمسؤوليتكم وإمّا من خلال المسؤولية العامة بلحاظ التكافل الاجتماعي الذي يفرضه الله على المجتمع في كفالة الفئات القادرة للفئات المحرومة أو الضعيفة حتى لا تجوع وتظمأ أو تعرى أو تشرّد من دون أن يكون هناك إنسانٌ أو مجتمعٌ يرعى حياته حتى لا تموت .
{وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ،فإن الله يريد منكم أن تنفتحوا على الآخرين في علاقتكم بهم وفي رعايتكم لهم سواء أكانوا من اليتامى أم من السفهاء ،بالمعروف الذي يتمثل بالفكرة الطيبة والأسلوب الحسن واللفتة الرحيمة والجوّ الحميم والحكمة التي ترعى ذهنيتهم وإحساسهم وشعورهم بالطريقة الملائمة التي لا تكسر قلباً ولا ترهق عقلاً ،ولا تضيع فكراً ،ولا تسقط إنساناً ،وبالكلمة الناعمة الرقيقة التي تفتح القلب والروح على المحبة والرحمة والخير ،لتصلح أمورهم في ما يفكرون ويعملون ولتبني مواقعهم على قاعدة الثقة بالله وبالنفس وبالإنسان كله .
وهكذا تمثل هذه الآية الفكرة التي تحمل الكثير من الإيحاءات الفكرية والاجتماعية والنفسية والروحية والعملية في علاقات الراشدين باليتامى والسفهاء بالرغم من اختصارها .