مهور النساء
في هذه الآية يتابع القرآن حديثه عن العلاقة الزوجية ،في خط العدل ،في بعض الالتزامات المالية اللازمة للمرأة على الرجل ،ليؤكد الحقيقة الإيمانية التي توجه الإنسان إلى اعتبار هذه العلاقة مسؤولية شرعية قانونية ،هدفها الحصول على رضا الله ؛لئلا يخيّل للرجل أن موقعه داخل هذه العلاقة يبرّر له التصرف دون تحمل المسؤولية ،ليرجع إلى الإحساس بإنسانية العلاقة التي تجعل لأيٍّ من الطرفين حقاً لا يملك الآخر أن يعتدي عليه ،سواء كان الحق مالاً أو غيره ،فإذا تنازل عنه بطيب نفسه ،كان للآخر أن يتصرف فيه بما يشاء .
وقد عالجت هذه الآية موضوع المهر ،فأعطته الصفة التي لا ترهق إنسانية الإنسان في المرأة ،فلم تعتبرها ثمناً وعوضاًكما يخيل للبعض أن يراه كذلكبل اعتبرته نحلة ،وهي العطية التي يمنحها الإنسان للآخر من دون مقابل ،لتكون رمزاً للمحبة والمودة ؛ولهذا لم يجعل له الإسلام الدور الكبير في التقييم ،خلافاً للتقاليد الاجتماعية البالية التي تحاولُ أن تجعل كمية المهر مقياساً لقيمة المرأة ،تبعاً لما تتصف به من مركزٍ اجتماعيّ ،ولم يحاول التدخل في ذلك ،بل ترك أمر الإنفاق عليه للزوجين بالاستناد إلى أوضاعهما المالية والاجتماعية والعاطفية .فيمكن أن يكون المهر قنطاراً ،كما عبرت بعض الآيات ؛ويمكن أن يكون سورة من القرآن ،كما فعل الرسول( ع ) في تزويجه لبعض أصحابه الفقراء ؛ولكنه لم يترك القضية على إطلاقها ،بل تدخّل في المسألة ليثير فيها الجانب الأخلاقي الذي يجد في كثرة المهر عملاً لا يتناسب مع كرامة المرأة ،وذلك كما ورد به الحديث المأثور: «شؤم المرأة كثرة مهرها » .
وربما يربط بعضهم مسألة المهر بعدم الاستقلال الاقتصادي للمرأة ،فإذا كانت مستقلة فلا يبقى للمهر معنى .ولكن هذه الملاحظة ليست دقيقة ،لأن المهر في طبيعته المادية المتحركة ،لا يمثل الثروة التي تحصل عليها المرأة لتأمين حياتها المستقبلية ،لا سيما إذا كان الغالب فيه أن المرأة تستخدمه في شراء بعض حاجاتها في نطاق الحياة الزوجية في زينتها وأوضاعها الخاصة ،ممّا يوحي بأنه مجردٍ رصيد ماليٍّ لتلبية حاجاتها التي ربما تدخل في ترتيب البيت الزوجي تماماً ،كما هو الحال في الهدايا التي يقدمها الزوج إليها قبل أو بعد الزواج كتدليلٍ على محبته لها واهتمامه بحاجاتها ،ممّا لا نجد هناك أيّ رفض له على مستوى القيمة السلبية ،بل قد نجد مطالبةً له بحيث إن امتناعه عنه أو لامبالاته به يمثل نقصاً في المحبة وإهمالاً للعلاقة الزوجية .
إن الإسلام لم يزد على هذه الحال إلا أنه جعل الهدية ملزمةً في عقد الزواج كما جعل للمرأة التي لا تريد المهر ،في إيحاءاته النفسية والاجتماعية أن يكون ثمناً لها أو أجرةً على استمتاع الزوج بها ،الحرية في الاكتفاء بالمهر الرمزي ،لأن المسألة تابعةٌ لاختيارها .وقد لاحظنا في الحديث الشريف عن الشؤم في غلاء المهر أن الإسلام يشجّع على تقليل المهر لرفع العبء عن الزوج من جهة ولإبقاء المهر في معناه الرمزي بدلاً من المعنى الاجتماعي المتعارف .
وهناك نقطة أخرى ،وهي أن الآثار المترتبة على الزواج بالنسبة للمرأة كالأمومة ومتطلباتها ،قد تفرض عليها البحث عن فرصة لتحقيق نوع من التأمين المادي عندما تفقد إمكانات العمل أو تواجه التعقيدات فيها ،كما نلاحظه في كثير من الحالات التي تختلف فيه أوضاع العمل للمرأة عن الرجل ،باعتبار أن فرص العمل للرجل قد تكون أكثر من المرأة ،لا سيّما إذا تقدمت بها السنّ ،ولم تعد تملك المواصفات التي ترى فيها المجتمعات المنحرفة فرصة لاجتذاب الزبائن أو نحو ذلك ،فقد جعل الإسلام لها الفرصة الاجتماعية لأن تطلب من زوجها أن يدفع لها تأميناً مستقبلياًوهو المهر المؤجلليتفاهما عليه ،لتشعر بالثقة بالمستقبل في الحالات التي تفقد زوجها بالموت أو بالطلاق من دون أن يكون لها موردٌ اقتصاديٌّ ثابتٌ أو متحرك في ظروفها الخاصة ،مما يمكن أن يهيىّء لها المجال لتبدأ العمل من خلال رأس المال الذي تملكه لرعاية نفسها أو أولادها .
إنّ الاستقلال الاقتصادي لا ينفي الحاجة إلى تأمين المستقبل في الحالات الطارئة ،وهذا ما نلاحظه في تشريع التأمين على الحياة في القوانين الحديثة على أساس الحاجات لتعزيز الشعور بالثقة في المستقبل الذي قد يحمل بعض التعقيدات المادية الصعبة .
ولا بد من التوقف عند الملاحظة الحيوية ،وهي أن المسألة بالنسبة إليها لا تمثل إلزاماً بالمهر الكثير الذي قد يوحي بالمعنى السلبي في معنى إنسانيتها ،بل هو خيارٌ ذاتيٌ لها ،فيكون لها اختياره عند الشعور بالحاجة إليه في مستقبل أمرها ،ويمكن لها إهماله أو رفضه إذا لم تجد حاجة إليه ،تماماً كأية حالةٍ اجتماعية يملك فيها الإنسانأيّ إنسانالحصول من الآخرين على بعض الموارد المالية من خلال رغبتهم به أو حاجتهم في الأوضاع الطبيعية الإنسانية .
وربما علل البعض مسألة المهر بأن الطلاق بيد الرجل ،فليس للمرأة ضمان في حياتها المشتركة ،وهكذا منحت المرأة حقاً بمطالبة الرجل بوثيقة مالية مضافاً إلى ثقتها الشخصية ،فإذا ألغينا حق الرجل بالطلاق وجعلناه خاضعاً لإرادة مشتركة فقد المهر فلسفته الوجودية .ولكن هذا التعليل ليس واقعياً ،لأن الملحوظ في المهرغالباًأن المرأة تستهلكه في بداية حياتها الزوجية لا في أثنائها من خلال حاجتها الطبيعية إلى الزينة إلى تأمين بعض شؤون بيتها ،لذا فهو لا يمثل وثيقةً مستقبليةً ،كما أنه لا يمنع الحاجة إليه بعد الطلاق حتى لو كان الطلاق بيد الزوجة أو بيدهما معاً .وقد نجد من الضروري أن يتدخل العاملون للإسلام في الوقوف أمام التقاليد الجديدة التي تحاول رفع المهور كقيمةٍ اجتماعيةٍ ،في بعض البلدان ،لأن ذلك يساهم في تأخير سن الزواج لدى بعض الفئات ،التي لا تملك إمكانيات ماليةً كافيةً بالمستوى المطلوب ،ليؤكدوا على العنصر الديني والأخلاقي الذي أكّد عليه رسول الله( ص ) في حديثه المشهور: «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه وإن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ...» فهذا هو الخط الإسلامي في طبيعة العلاقة الزوجية ،بعيداً عن كل عنصرٍ ماليٍّ أو نسبيٍّ أو اجتماعيّ أو غير ذلك .
وقد جاءت الآية لتؤكد للرجل أن يؤتي المرأة صداقهاوهو مهرهاولا يستغل مركزه القويّ في الأسرة ليمنعها منه ،لأن ذلك يمثل عدواناً على مال الآخرين بدون حق ؛فإنه «لا يحلُّ لمؤمن مال أخيه إلا من طيب نفسٍ منه » ،من دون فرق بين أن يكون استحقاقه لهذا المال ناتجاً عن قرضٍ أو معاملة بيعٍ أو شراءٍ ،أو كان ناتجاً عن التزامٍ عقديٍّ كعقد الزّواج ،فإذا طابت نفس المرأة وبذلت مهرها لزوجها ،انطلاقاً من وضعٍ عاطفي أو عائلي أو غير ذلك ،فللرجل أن يأخذه هنيئاً مريئاً ،لأنه يملك الأساس الشرعي والروحي الذي يبرر له ذلك .
وربما كان الأساس في تنبيه الآية إلى هذه النقطة ،هو وجود بعض النماذج التي تمارس هذا النوع من الضغط على المرأة لتتنازل عن حقها ،أو تعمل على إنكاره انطلاقاً من بعض الفرص القانونية المتاحة ،وقد ينطلق البعض في هذا الاتجاه لشعوره بفداحة المهر وكثرته ،فيحاول التخلص منهبعد الزواجبالطرق غير الشرعية ،الأمر الذي يدعونا إلى اعتبار ذلك مشكلةً تواجه الأسرة التي ترتكز في تكوين العلاقة على أساس المهر الكثير ،ويوحي إلينا بالمبادرة إلى توعية الآباء والأمهات في مواجهة هذه الحالة بكثيرٍ من الوعي والواقعية والمسؤولية ،ليعرفوا بأنهمفي تصرفاتهم غير المسؤولةيخلقون لأولادهم وبناتهم المشاكل الصعبة في المستقبل ،فيقودهم ذلك إلى الانحراف .