{ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} هذا الكلام في بيان العدالة مع النساء في المعاملة ، فلا يصح أن يستهان بحقوقهن التي ينشئها الزواج ، وأولها المهر ، فالصدقة هنا هي المهر ، وسمى صدقة لأن تقديمه يدل على صدق النية ، والإخلاص في طلب الزوجة ، فمن اخلص في طلب يد امرأة قدم لها ما يليق بمثلها تكريما لمعنى الزوجية ، وتشريفا لتلك العلاقة ، وقال تعالى:{ نحلة} ومعناها عطاء بعض العلماء بمعنى فريضة واجبة ، وقد فسرها بذلك أبو عبيدة ، وقال الزجاج في آتوهن صدقاتهن نحلة( تدينا ) أي أن الدين اوجب ذلك ، والخطاب لجماعة المؤمنين يوجب أداء المهور صادقي النية طيبي النفوس متدينين بهذا العطاء .
{ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} الحياة الزوجية لا تقوم فقط على التكليف الواجب ، بل تقوم على المودة الرابطة والتسامح ، وقد يجهد الرجل المهر كله ، فيقتضي حسن العشرة ان تترك بعض مهرها طيبة النفس ، وليست المهور كسائر الديون ، إنما هو دين فيه معنى الهدية ، ولذلك فتح الشارع الباب لمثل هذه المعاني . ولذلك قال تعالى:{. . . ولا تنسوا الفضل بينكم عن الله بما تعملون بصير237}[ البقرة] ومعنى طابت نفسا رضيت من غير تورط ، ولا تغرير ولا ضغط ولا إرهاق ، وطيبة النفس بالعطاء أرق من الرضا به ؛ لأن الرضا قد يتصور مع التورط أما طيبة النفس فلا تتصور إلا بالسماح ، بل من غير طلب بالتصريح او بالإشارة ، ومعنى هنيئا ، أي لا ألم في أخذه ، ومعنى مريئا حسن العاقبة ، واكل المال أخذه ، فلا يراد بالأكل هنا حقيقته ، بل يراد الأخذ الذي يؤدي إليه .
وقد كان يحدث أن بعض الناس يرهقون زوجاتهم ليتركوا بعض المهر أو كله ، فكان الفقهاء حريصين على ان تتوافر الحرية كاملة في العطاء ، ولذا كتب عمر –رضي الله عنه – إلى بعض قضاته:"إن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك". وروى ان رجلا أبرأته امرأته من مهرها ، ثم طلقها فرجعت{[670]} فاحتكما إلى عبد الملك بن مروان فحكم لها ، وقال شريح في مثل هذه الحال:لو طابت نفسها ما رجعت ، وكان الأوزاعي لا يجيز هبة المهر إلا بعد ان تنجب منه ، او تمضي سنة على زفافها – والنص يشير إلى انه يحسن ألا تترك له كل المهر ، ولذا قال تعالى:{ فإن طبن لكم عن شيء منه} ومن للتبعيض أي عن بعضه ، ويظهر ان هذا التأكيد طيب نفسها ، ويجوز الإبراء منه كله .