التّفسير
«النِّحلة » في اللغة تعني الدّين ،كما أنّها بمعنى العطية أيضاً ،يقول الرّاغب الأصفهاني في مفرداته: «واشتقاقه فيما أرى أنه من النحل نظراً منه إِلى فعله فكان نحلته أعطيته النحل » .
و«صدقاتهن » جمع الصداق وهي بمعنى المهر ...
والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزّوجة تتضمن إشارة إِلى إِحدى حقوق النساء المسلّمة ،وتؤكّد قائلة: ( وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة ) أي أعطوا المهر للزوجة كمّلا واهتموا بذلك كما تهتمون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص ( وفي هذه الصورة نكون قد أخذنا لفظة النِّحلة بمعنى الدَّين ) .
وأمّا إِذا أخذنا لفظة النِّحلة بمعنى العطية والهبة فيكون تفسير الآية المذكورة بالنحو التالي: «أعطوا النساء كامل مهرهنّ الذي هو عطية من الله لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهنّ من ضعف جسمي نِسبي » .
ثمّ بعد أن يأمر الله سبحانهبصراحةفي مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظاً لحقوقهنّ ،يعمد في ذيل هذه الآية إِلى بيان ما من شأنه احترام مشاعر كلا الطرفين ،ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبّة والعلاقة القلبية ،وكسب العواطف إِذ يقول: ( فإِن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ) أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له ،وإِنّما أقرّ الإِسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميداناً لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة ،بل يكون مسرحاً للتلاقي العاطفي الإِنساني ،وتسود في هذه الحياة المحبّة جنباً إِلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة .
الصّداق دعامة اجتماعية للمرأة:
لمّا كانت المرأةفي العصر الجاهليلم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إِذا تزوج امرأة ترك أمر صداقهاالذي هو حقها المسلّمإِلى أوليائها ،فكان أولياؤها يأخذون صداقها ،ويعتبرونه حقّاً مسلّماً لهم لا لها ،وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقاً لامرأة أُخرى ،مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل ،وكان هذا هو صداق الزوجتين .
ولقد أبطل الإِسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة ،واعتبر الصداق حقّاً مسلّماً خاصاً بالمرأة ،وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة .
على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإِسلام ،فهو أمر يتبع اتفاق الزوجين ،وإِن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور ،ولكن هذا لا يكون حكماً إِلزامياً ،بل هو أمر مستحب .
وها هنا ينطرح هذا السؤال ،وهو إِذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو ،وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلماذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغاًقليلا أو كثيراًإِلى المرأة بعنوان الصداق والمهر ؟ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إِساءة إِلى شخصية المرأة ،ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج ؟
إِنّ هذه الأُمور هي التي تدفع بالبعض إِلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق ،ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية ،في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط ،بل يعرض وضعها للخطر .
وتوضيح ذلك هو ،أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج ،وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة ،ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضرراً لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة ،وذلك:
أوّلا: إِنّ الرجلبحكم قابليته الجسدية الخاصّةيمتلكعادةسلطاناً ونفوذاً وفرصاً أكثر في المجتمع ،وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إِنكارها عند الحديث حول المرأة ،ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشرحتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوحوكما هو مشهود للجميعإنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّاً هي في الأغلب في أيدي الرجال .
هذا مضافاً إِلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات ،وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإِمكانيات للمرأة ،فإِن النساء الثيباتخاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ ،وفقدان شبابهنّ وجمالهنّيمتلكن فرصاً أقل للحصول على أزواج لهنّ .
بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإِمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإِمكانات التي يفقدها الرجل بذلك ،ويكون الصداق والمهرفي الحقيقةبمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة ،ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية ،هذا مضافاً إِلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والافتراق .
صحيح أنّ المهرفي نظر القوانين الإِسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة ،ويحق للمرأة المطالبة به فوراً ،ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدَّين المتعلق في الذّمة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها ،كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها ،إِلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق ( طبعاً هناك استثناءات لهذا الموضوع ،ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد ) .
وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ ،واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإِسلامية ،لأن الإِسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إِلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء ،وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية ،في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد ،ويعتبر أمراً إِضافياً ،بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إِذ بدونه تبطل هذه المعاملات ( طبعاً لابدّ من الانتباه إِلى أن على الزوجإِذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواجأن يدفع إِلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها ) .
من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة ،وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة ،لا أنّه ثمن المرأة ،ولعل التعبير بالنِّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إِشارة إِلى هذه النقطة .