( صدقاتهن ) جمع صدقة بضم الدال وهو الصداق بفتح الصاد وكسرها أي ما تعطى المرأة من مهرها .وإيتاء النساء صدقاتهم يحتمل المناولة بالفعل ويحتمل الالتزام والتخصيص .يقال أصدقها وأمهرها بكذا إذا ذكر ذلك في العقد وإن لم يقبض .
وقوله ( نحلة ) روي عن ابن عباس وغيره من السلف تفسيرها بالفريضة وفسرها بعضهم بالعطية والهبة .ووجه أنه مال تأخذه بلا عوض مالي .وجعلها الراغب مشتقة من النحل كأنها عطية كما يجني النحل .وهذا القول لا يعارض ما يدل عليه الأول من فرضية المهر وعدم جواز أكل شيء منه بدون رضا المرأة كما سيأتي .
الأستاذ الإمام:قلنا إن الكلام في أوائل هذه السورة في الأهل والأقارب والأزواج وهو يتسلسل في ذلك إلى قوله تعالى:( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) [ النساء:36] .ولذلك افتتحها بالتذكير بالقراءة والأخوة العامة وهي كون الأمة من نفس واحدة ثم طفق يبين حقوق الضعفاء من الناس كاليتامى والنساء والسفهاء ويأمر بالتزامها فقال:( وآتوا اليتامى أموالهم ) واليتيم لغة من مات أبوه مطلقا وفي عرف الفقهاء من مات أبوه وهو صغير فمتى بلغ زال يتمه إلا إذا بلغ سفيها فإنه يبقى في حكم اليتيم ولا يزول عنه الحجر .ومعنى إيتاء اليتامى أموالهم هو جعلها لهم خاصة وعدم أكل شيء منها بالباطل أي أنفقوا عليهم من أموالهم حتى يزول يتمهم بالرشد كما سيأتي في آية:( وابتلوا اليتامى ) فعند ذلك يدفع إليهم ما بقي لهم بعد النفقة عليهم في زمن اليتم والقصور فهذه الآية في إعطاء اليتامى أموالهم في حالتي اليتم والرشد كل حالة بحسبها وتلك خاصة بحال الرشد .وليس في هذه تجوز كما قالوا ، فإن نفقة ولي اليتيم عليه من ماله يصدق عليه أنه إيتاء مال اليتيم لليتيم ، والمقصود من هذه الآية ظاهر وهو المحافظة على مال اليتيم وجعله له خاصة وعدم هضم شيء منه لأن اليتيم ضعيف لا يقدر على حفظه والدفاع عنه ولذلك قال:( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) المراد بالخبيث الحرام وبالطيب الحلال أي لا تتمتعوا بمال اليتيم في المواضع والأحوال التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم .يعني أن الإنسان إنما يباح له التمتع بمال نفسه في الطرق المشروعة ، فإذا عرض له استمتاع فعليه أن يجعله من مال نفسه لا من مال اليتيم الذي هو قيم ووصي عليه ، فإذا استمتع بمال اليتيم فقد جعل مال اليتيم في هذا الموضع بدلا من ماله ، وبهذا يظهر معنى التبدل والاستبدال .
وقوله:( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم .وهذا صريح فيما إذا كان للولي مال يضم مال اليتيم إليه .ويمكن أن يقال إن أكله مفردا غير مضموم إلى مال الولي أولى بالتحريم وهو داخل في عموم قوله: "وآتوا اليتامى أموالهم "وقيل يفهم من هذا القيد جواز أكل الوصي الفقير الذي لا مال له شيئا من مال اليتيم وسيأتي التصريح بذلك في الآية السادسة .
أقول:ومراد الأستاذ الإمام بنفي التجوز من الآية يعم ما قاله بعضهم من التجوز بلفظ الإيتاء باستعماله بمعنى ترك الأموال سالمة لهم وعدم اغتيال شيء منها وما قالوه من أن المراد بإيتائهم إياها هو تسليمهم إياها بعد الرشد .وأطلق عليهم لفظ اليتامى باعتبار ما كانوا عليه من عهد قريب كما ذكر بعض فلاسفة البلاغة وكتب الأصول ، وهو ما سيأتي حكمه في الآية السادسة فلا حاجة إلى دسه في هذه .وقيل أكل أموالهم إلى أموال اليتامى هو خلطها بها وتقدم حكم مخالطتهم في سورة البقرة ( راجع آية 220 منها في ج 2 تفسير- .
واختلفوا أيضا في تبدل الخبيث بالطيب والأظهر فيه ما اختاره الأستاذ الإمام فيما تقدم آنفا .وقيل إن المراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من أخذ الجيد من مال اليتيم ووضع الرديء بدله وأخذ السمين منه وإعطائه الهزيل ، ونسبة الرازي للأكثرين قال وطعن فيه صاحب الكشاف بأنه تبديل لا تبدل .
وعبر عن أخذ المال والانتفاع به بالأكل لأنه معظم ما يقع به التصرف ، وهذا الاستعمال شائع معروف كقوله تعالى:( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة:188] وهو يعم كل ما يأخذه الإنسان من مال غيره بغير حق .
( إنه كان حوبا كبيرا ) أي إن أكل مال اليتيم أو تبدل الخبيث بالطيب منه أو ما ذكر من مجموع الأمرين وكانت تفعله الجاهلية كان في حكم الله حوبا كبيرا أي إثما عظيما .
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا ) هذا حكم من أحكام السورة متعلق بالنساء بمناسبة اليتامى وقيل باليتامى بأنفسهم أصالة وأموالهم تبعا وما قبله متعلق بالأموال خاصة .ففي الصحيحين وسنن النسائي والبيهقي والتفسير عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: "يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ".قال عروة قالت عائشة:ثم إن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل:( يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) [ النساء:127] قالت:والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله فيها:( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) قالت عائشة وقول الله في الآية الأخرى:( وترغبون أن تنكحوهن ) رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن{[417]} .
وفي رواية أخرى في الصحيح عنها قالت:أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لمالها فيضربها ويسيء صحبتها فقال:( إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) يقول:خذ ما أحللت لكم ودع هذه التي تضربها .وفي رواية صحيحة أخرى عنها فيما يحال على هذه الآية في الآية الأخرى وهو قوله:( وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) قالت أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في مالها فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره .
أقول:فعلى هذا تكون الآية مسوقة في الأصل للوصية بحفظ حق يتامى النساء في أموالهن وأنفسهن ، والمراد باليتامى فيها النساء وبالنساء غير اليتامى ، أي إن خفتم أن لا تقسطوا أي أن لا تعدلوا في يتامى النساء فتعاملوهن كما تعاملون غيرهن في المهر وغيره أو أحسن فاتركوا التزوج بهن وتزوجوا ما حل لكم أو ما راق لكم وحسن في أعينكم من غيرهن .قال ربيعة:اتركوهن فقد أحللت لكم أربعة .أي وسع عليهم في غيرهن حتى لا يظلموهن .وقال الأستاذ بعد أن أورد قول عائشة بالمعنى مختصرا:كأنه يقول إذا أردتم التزوج باليتيمة وخفتم أن تسهل عليكم الزوجية أن تأكلوا أموالها فاتركوا التزوج بها وأنكحوا ما طاب لكم من النساء الرشيدات .
أقول:والربط بين الشرط والجزاء على هذا القول من أقوال عائشة ظاهر ، ولا يظهر على رواية العضل ، وهو منعهن من التزوج إلا أن كانوا يعتذرون عن العضل بإرادة التزوج بهن ويمطلون في ذلك .
وقال ابن جرير بعد أن ذكر عن بعضهم تفسير الآية بما أيده بالروايات عن عائشة:وقال آخرون بل معنى ذلك النهي عن نكاح ما فوق الأربع حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم ، وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به فنهوا عن ذلك وقيل لهم إن خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع وإن خفتم أيضا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم .ثم روي بأسانيده عن عكرمة أنهم كانوا يتزوجون كثيرا ويتغايرون في الكثرة ويغيرون على أموال اليتامى من أجل ذلك .وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى فنهوا عن ذلك .وعنه أنه قال:قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى .
وأقول:إن الإفضاء بذلك إلى أكل أموال اليتامى قد جعل حجة على تقليل التزوج لظهور قبحه وفي ذلك التعدد من المضرات الآن ما لم يكن يظهر مثله في عهد التنزيل كما يأتي بيانه قريبا .
ثم أورد ابن جرير في الآية وجها ثالثا فقال:وقال آخرون بل معنى ذلك أن القوم كان يتحوبون في أموال اليتامى ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن فقيل لهم كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ولا تزيدوا عن ذلك .وإن خفتم أيضا أن لا تعدلوا في الزيادة عن الواحدة فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجور فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم .ثم أورد ابن جرير الروايات التي تؤيد ذلك عن سعيد بن جبير والسدي وقتادة .وعن ابن عباس أيضا من طريق عبد الله بن صالح أنه قال في الآية:كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى وكانوا يعظمون شأن اليتيم فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ( أي لم يتفقدوه في الإسلام ويتأثموا مما فيه من ظلم النساء ) فقال:( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) ونهاهن عما كانوا ينكحون في الجاهلية .وروي نحوه عن الضحاك وفيه أنهم كانوا ينكحون عشرا من النساء ونساء آبائهم وأن وعظهم في اليتامى وفي النساء .
وروي نحوه أيضا عن الربيع ومجاهد .
قال أبو جعفر ( ابن جرير ) وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال:تأويلها وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا فلا تنكحوها ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن .
قال:وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخلطها بغيرها من الأموال فقال تعالى ذكره:( وآتوا اليتامى أموالهم ) .ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيه كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى ، فقال انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن مثنى وثلاث ورباع الخ ما تقدم عنه آنفا ثم قال:
ففي الكلام إذا كان المعنى ما ذكرنا متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره وذلك أن معنى الكلام:وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم فلا تتزوجوا منهن إلا ما أمنتم معه الجور الخ .
ثم بين أن جواب الشرط في قوله تعالى:( وإن خفتم إن لا تعدلوا في اليتامى ) هو قوله:( فانكحوا ما طاب لكم ) مع ضميمة قوله:( ذلك أدنى أن لا تعولوا ) فإن هذا أفهم أن اللازم المراد من قوله:( فانكحوا ما طاب لكم ) هو العدل والإقساط في النساء والتحذير من ضده وهو عدم الإقساط فيهن الذي يجب أن يخاف كما يخاف عدم الإقساط في اليتامى لأن كلا منهما مفسدة في نظام الاجتماع تغضب الله وتوجب سخطه ويؤكده قوله تعالى:( ذلك أدنى أن لا تعولوا ) وقد بيناه بأوضح مما بينه هو به .
وعلى هذا الوجه الذي اختاره ابن جرير يكون في الكلام في العدل في النساء تقليل العدد الذي ينكح منهن مع الثقة بالعدل مقصودا لذاته وهو الذي يليق بالمسألة في ذاتها لأنها من أهم المسائل الاجتماعية ويناسب أن يكون في أوائل السورة التي سميت سورة النساء .وأما على الوجه الذي قالته عائشة وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام في الدرس فمسألة تعدد الزوجات جاءت بالتبع لا بالأصالة .وكذلك على الوجه الثالث الذي يقول إن المراد منعهم من التعدد الذي يحتاجون فيه إلى أموال اليتامى لينفقوا على أزواجهم الكثيرات ، وهذا أضعف الوجوه وإن قال الرازي إنه أقربها .
وقد يصح أن يقال إنه يجوز أن يراد بالآية مجموع تلك المعاني من قبيل رأي الشافعية الذين يجوزون استعمال اللفظ المشترك في كل ما يحتمله الكلام من معانيه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا:والذي يقرره كاتب هذا الكلام في دروس التفسير دائما هو أن كل ما يتناوله اللفظ من المعاني المتفقة يجوز أن يكون مرادا منه لا فرق في ذلك بين المفردات والجمل .وعلى هذا تكون الآية مرشدة إلى إبطال كل تلك الضلالات والمظالم التي كانت عليها الجاهلية في أمر اليتامى وأمر النساء من التزوج باليتامى بدون مهر المثل والتزوج بهن طمعا في أموالهن يأكلها الرجل بغير حق ، ومن عضلهن ليبقى الولي متمتعا بمالهن لا ينازعه فيه الزوج ومن ظلم النساء بتزوج الكثيرات منهن مع عدم العدل بينهن- فمن لم يفهم هذا كله من هذه الآية فهمه من مجموع الآيات هنا .
الأستاذ الإمام:جاء ذكر تعدد الزوجات في سياق الكلام عن اليتامى والنهي عن أكل أموالهن ولو بواسطة الزوجية فقال إن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم أن لا تتزوجوا بها فإن الله تعالى جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوج بغيرهن إلى أربع نسوة ، ولكن إن خفتم أن لا تعدلوا بين الزوجات أو الزوجتين فعليكم أن تلتزموا واحدة فقط .والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك فيه بل يصدق بتوهمه أيضا ، ولكن الشرع قد يغتفر الوهم لأنه قلما يخلو منه علم بمثل هذه الأمور ، فالذي يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو الذي يثق من نفسه بالعدل بحيث لا يتردد فيه أو يظن ذلك ويكون التردد فيه ضعيفا .
قال:ولما قال:( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) علله بقوله:( ذلك أدنى ألا تعولوا ) أي أقرب من عدم الجور والظلم فجعل البعد من الجور سببا في التشريع وهذا مؤكد لاشتراط العدل ووجوب تحريه ومنبه إلى أن العدل عزيز .وقد قال تعالى في آية أخرى من هذه السورة:( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) [ النساء:129ٍ وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدد بوجه ما ، ولما كان يظهر وجه قوله بعد ما تقدم من الآية:( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) والله يغفر للعبد ما لا يدخل تحت طاقته من ميل قلبه وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يميل في آخر عهده إلى عائشة أكثر من سائر نسائه ولكنه لا يخصها بشيء دونهن .أي بغير رضاهن وإذنهن وكان يقول"اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك "{[418]} أي من ميل القلب .
قال:فمن تأمل الآيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور .وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات ، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام ، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو ، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيت ومن البيوت إلى الأمة .
قال:كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب والصهر الذي تقوى به العصبية ، ولم يكن له من الضرر مثل ماله الآن ، لأن الدين كان متمكنا في نفوس النساء والرجال وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها .أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده إلى سائر أقاربه فهي تغري بينهم العداوة والبغضاء:تغري ولدها بعداوة إخوته وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد في العائلة كلها .ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين .فمنها السرقة والزنا والكذب والخيانة والجبن والتزوير ، بل منها القتل حتى قتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها والزوج زوجته ، كل ذلك واقع ثابت في المحاكم- وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولد وهي جاهلة بنفسها وجاهلة بدينها لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتها من أمثالها يتبرأ منها كل كتاب منزل وكل نبي مرسل ، فلو تربى النساء تربية دينية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطات الأعلى على قلوبهن بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة لما كان هنالك ضرر على الأمة من تعدد الزوجات ، وإنما كان يكون ضرره قاصرا عليهن في الغالب .أما والأمر على ما نرى ونسمع فلا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم وأن من أصوله منع الضرر والضرار ، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة:يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .قال وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعا عند الخوف من عدم العدل .
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس الأول الذي فسر فيه الآية ثم قال في الدرس الثاني:تقدم أن إباحة تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما يصعب تحققه فكأنه نهى عن كثرة الأزواج .وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة ولا يفهم منه كما فهم بعض المجاورين أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلا أو فاسدا فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد فقد يخاف الظلم ولا يظلم وقد يظلم ثم يتوب فيعدل فيعيش عيشة حلالا .
قال:أما قوله تعالى:( أو ما ملكت أيمانكم ) فهو معطوف على قوله:( فواحدة ) أي فالزموا زوجا واحدة أو أمسكوا زوجا واحدة مع العدل- وهذا فيمن كان متزوجا كثيرات- أو الزموا ما ملكت أيمانكم واكتفوا بالتسري بهن بغير شرط ( ذلك أدنى أن لا تعولوا ) أي أقرب إلى عدم العول وهو الجور ، فإن العدل بين الإماء في الفراش غير واجب إذ لا حق لهن فيه وإنما لهن الحق في الكفاية بالمعروف .وهذا لا يفيد حل ما جرى عليه المسلمون منذ قرون كثيرة من الإسراف في التمتع بالجواري المملوكات بحق أو بغير حق مهما ترتب على ذلك من المفاسد كما شوهد ولا يزال يشاهد في بعض البلاد إلى الآن اه كلامه رحمه الله تعالى .وأتذكر أنني سمعت منه أنه يرى عدم الزيادة في الإماء على أربع ولكنني لم أر ذلك مكتوبا عندي .
أقول:هذا وإن تعدد الزوجات خلاف الأصل الطبيعي في الزوجية ، فإن الأصل أن يكون للرجل امرأة واحدة يكون بها كما تكون به زوجا ولكنه ضرورة تعرض للاجتماع ولا سيما في الأمم الحربية كالأمة الإسلامية ، فهو إنما أبيح للضرورة واشترط فيه عدم الجور والظلم .ولهذه المسألة مباحث أخرى كبحث حكمة التعدد والعدد وبحث إمكان منع الحكام لمفاسد التعدد بالتضييق فيه إذا عم ضرره كما في الحال في البلاد المصرية كما يقال ، فإن الذين يتزوجون أكثر من واحدة يكثرون هنا ما لا يكثرون في بلاد الشام وبلاد الترك مع كون الأخلاق في البلاد المصرية أشد فساد منها هناك في الغالب .ولنا في حكمة التعدد فتوى نشرناها في المجلد السابع من المنار هذا نصها .
/خ4