مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديعن عائشة في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} ،الآية قالت: أنزلت هذه في الرجل يكون له اليتيمة وهو وليّها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها ،فلا ينكحها حبّاً لمالها ويضر بها ويسيء صحبتها ،فقال الله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} يقول: ما أحللت لك ،ودع هذه .وقال سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدّي: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ويتزوجون ما شاؤوا ،فربما عدلوا وربما لم يعدلوا ،فلما سألوا عن اليتامى فنزلت آية اليتامى{وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ} الآية ،أنزل الله تعالى أيضاً{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} الآية ،يقول: كما خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى ،فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ،فلا تتزوجوا أكثر ما يمكنكم القيام بحقهن ،لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز ،وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي .
تشريع تعدد الزوجات
قبل الدخول في الحديث عن الجوانب التشريعية التي تتعرض لها الآية في موضوع ( تعدد الزوجات ) ،لا بد لنا من الوقوف أمام بحث يتصل ببعض الجوانب الشكلية في طريقة تعبير الآية عن الفكرة .فقد أثير في كتب التفسير تساؤل كبير حول طبيعة الارتباط بين أوّل الآية وآخرها ،فإن الشرط{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} يتحدث عن حالة خوف الناس من عدم العدل في اليتامى ،بينما الجزاء{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ..} يتحدث عن جواز الزواج بأكثر من واحدة ،ولا ارتباط بين هذا وذاك مع أن الجزاء لا بد أن يكون مترتباً على الشرط ،بحيث تكون نسبته إليه نسبة المسبب الى السبب أو ما يشبه ذلك ،الأمر الذي يفرض أن يكون الموضوع الذي يتعرض له داخلاً في نطاق موضوع الشرط .
اختلاف في تفسير الآية
وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً ،في ما رووه عن بعض الصحابة وغيرهم مما لا تقوم به حجة ثابتة ،لأنه مرتكز على أساس الرأي الشخصي ،الذي لا يغلق الباب على آراء أخرى مختلفة عنه ما دامت القضية في جميع وجوهها خاضعةً للاجتهاد القائم على الاستظهار من الآية ومناسباتها ،وقد جمعها ابن جرير الطبري في تفسيره فقال:
1«إن خفتم يا معشر أولياء اليتامى ،ألا تقسطوا في صداقهنّ ،فتعدلوا فيه وتبلغوا بصداقهنّ صداقات أمثالهنّ ،فلا تنكحوهن ،ولكن انكحوا غيرهنّ من الغرائب اللواتي أحلّهن الله لكم وطيّبهن ،من واحدة إلى أربع ؛وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فلا تعدلوا ،فانكحوا منهن واحدة أو ما ملكت أيمانكم ...» .وقد روي هذا الوجه من التفسير عن عائشة ،على أساس اجتهادها الشخصي ،من خلال ما لاحظته من وجود بعض الأوضاع العربية التي توحي بمثل هذا الاتجاه ،وذلك في ما نقله عنها عروة بن الزبير قال: سألت عائشة ،أم المؤمنين ،فقلت: يا أم المؤمنين ،أرأيت قول الله:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} ؟قالت: يا بن أختي ،هي اليتيمة تكون في حجر وليّها ،فيرغب في جمالها ومالها ،ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنّة صداق نسائها ،فنهوا أن ينكحوهن ،إلا أن يقسطوا ،فيكملوا لهنّ الصداق ،ثم أمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق » .
2«إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها ،فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها ،لما يلزمكم من مؤن نسائكم ؛فلا تجاوزوا في ما تنكحون من عدد النساء على أربع ؛وإن خفتم أيضاً من الأربع ألاّ تعدلوا في أموالهم ،فاقتصروا على الواحدة » .وذلك أن الرجل من قريش كان يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ؛فإذا صار معدماً ،مال على مال يتيمه الذي في حجره ،فأنفقه أو تزوّج به ،فجاءت الآية للتنديد بهذا الواقع ،والنهي عن الإكثار من الزواج في ما فوق الأربع ،من أجل الابتعاد عن الوقوع في هذا المأزق .
3«إن القوم كانوا يتحوّبون في أموال اليتامى ألا يعدلوا فيها ولا يتحوّبون في النساء ألاّ يعدلوا فيهن ،فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى ،فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ،ولا تنكحوا منهن إلاّ من واحدة إلى الأربع ،ولا تزيدوا على ذلك ؛وإن خفتم ألا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة ،فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم » .
4وقالوا:«نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل ،هو وليّها ليس لها وليّ غيره ،وليس أحد ينازعه فيها ،ولا يُنكحها لمالها ،فيضرّ بها ويسيء صحبتها » ؛فوعظ في ذلك .
فيكون معنى الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ،اللائي أنتم ولاتهنّ ،فلا تنكحوهنّ وانكحوا ما أحلّ لكم ،لئلا تسيئوا صحبتهن أو تضروا بهن .
ولعل الأولى من هذه المعاني ،هو المعنى الثالثكما ذكره الطبري في تفسيرهأن السورة مسبوقة في بدايتها لحفظ مال اليتيم ،وعدم تبديل الطيب منه بالخبيث ،وعدم السيطرة عليه بالأكل والتملق ،كما مر في الآية السابقة .ولما كان ذلك يوحي بالتحرّج في أمر اليتامى والخوف من عدم العدل ،وذلك في ما دعا الله إليه من التقوى ،أراد أن يقارن ذلك بحالة مماثلة ،وهي سلوك الرجال مع النساء ،مما كان السلوك فيه جارياً على التساهل والابتعاد عن خط العدل ؛ويوحي إليهم بأن التقوى التي تدفع إلى الخوف والحذر من التصرف في أمر اليتامى ،على أساس واقع الضعف الذي يتمثل في حياتهم ،هي نفسها التقوى التي تدفع إلى ذلك في أمر النساء ؛فلا بد للإنسان أن يطلب العدل في علاقته بهنّ ؛وذلك من خلال الضعف الطبيعي الذي يعانينه في واقع الحياة .وفي ضوء ذلك ينبغي للإنسان أن يدرس إمكانية العدل في التعدد حتى الأربع ؛فإذا لم يستطع العدل أو خاف من عدمه ،فعليه أن يكتفي بواحدة .وربما كان منشأ هذا الالتباس الذي دعا الى كثرة الوجوه الواردة في الآية ،هو أن مقابلة الخوف من عدم العدل في اليتامى لا تتناسب مع الرخصة في النكاح إلى الأربع ،ولكن التدقيق فيها يوحي لنا بأن الخوف هو العنصر المقابل في الموردين ،إلا أن طريقة التعبير في الفقرة الثانية لم تجعله في أول الفقرة ،بل جعلته في آخرها ؛مما يوحي بإرادة التوازن بينهما في العدل هنا وهناك ،مع الإيحاء بالحالة النفسية التي تدعو إلى الالتزام .ولعل التأمُّل الدقيق في الآية ،يكشف للمتأمل وضوح هذا الوجه ؛والله العالم .
إشكالات على تعدد الزوجات
كيف نواجه تعدد الزوجات في نتائجه النفسية والاجتماعية والاقتصادية ،من خلال السلبيات التي يثيرها الآخرون هنا وهناك ،لا سيما بعد أن حاول أعداء الإسلام أن يجعلوا من هذا التشريع نقطة ضعف كبيرة ليدلّلوا على تخلّف الإسلام عن خط العدالة والمساواة ،في ما يريده للعائلة من ثباتٍ وطمأنينةٍ واستقرار ؟فقالوا: إنه يحوّل المرأة إلى مجرد أداة للمتعة ،ويشجّع الاتجاه الشهواني للرجل ،عندما يفتح أمامه باب التعدد والحصول على ما طاب له من النساء ،ويؤدي إلى الاستغراق في هذا الجانب ،والابتعاد عن الآفاق الروحية التي ترتفع به عن حاجات الجسد ،والاقتراب من الطبيعة الحيوانية فيه .وهذا أمرٌ لا يلتقي مع روحيّة الدين الذي يعمل على تهذيب الغرائز الإنسانية وترويضها ،والانطلاق بها إلى ما يحقق له حاجته الطبيعية من دون إفراط .
وقالوا: إنه يُفقد البيت الزوجي طمأنينته واستقراره ،بسبب ما يولّده من عوامل الحقد بين الزوجات ،من خلال التنافس الذي يحصل بينهنّ للاستئثار بعاطفة الرجل ،فينتهي ذلك الى التنازع والتخاصم ،لا سيّما في الحالات التي قد يميل فيها الرجل إلى واحدٍة دون أخرى ،انطلاقاً من نزوةٍ أو رغبةٍ أو عاطفةٍ أو مصلحة ،فيخلق لإحداهما عقدةً نفسيةً ضد صاحبتها .وقد تتعاظم العقدة فتؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من مشاكل عامةٍ وخاصةٍ ؛ولا يقتصر ذلك على الزوجات ،بل يتعداه إلى الأولاد الذين قد يتعقدون ضد بعضهم البعض تبعاً للعقدة الحاصلة بين الأمهات .وربما تتحول عقدتهم إلى مشاعر سلبية ضد الأب ،الذي تدفعه رغبته إلى إهمال أولاده من زوجته غير المفضلة لديه .
وهذا أمر لا يلتقي مع طبيعة المودّة والرحمة اللّتين ترتكز عليهما العلاقة الزوجية في الإسلام ،ولا ينسجم مع مفهوم السكن ،الذي جعله الإسلام طابع هذه العلاقة في القرآن .
وقالوا: إنه يؤدي إلى إرباك الواقع الاقتصادي للعائلة ،لأن التعدد يضيف إلى الميزانية أعباءً جديدة ،تبعاً للحاجات المتعددة لكل واحدة منٍ الزوجات ،ويساهم في تكثير النسل الذي يُربك الجانب الاقتصادي للإنسان وللأمة ،ويضعف الجانب التربوي للأولاد ؛فقد لا يستطيع الوالد أن يخططبطريقة معقولةللسير بتربيتهم في الاتجاه السليم .
وهذا أمرٌ لا يلتقي مع المصلحة الحقيقية للإنسان ،التي تتمثل في انطلاق الحياة في خط اليسر ؛وذلك لأن العسر المالي قد يوقع الإنسان في قبضة الانحراف عن الحق تحت ضغط الحاجة الى الآخرين ،كما عبّر عنه في دعاء «مكارم الأخلاق » في «الصحيفة السجادية »: «اللهم صن وجهي باليسار ،ولا تبتذل جاهي بالإقتار ؛فأسترزق أهل رزقك ،وأستعطي شرار خلقك ؛فأفتتن بحمد من أعطاني وأبتلي بذم من منعني ؛وأنت من دونهم وليّ الإعطاء والمنع ...» .
أما الجانب التربوي ،فإنّه من الجوانب الحيوية في التخطيط الإسلامي لبناء شخصية الطفل ،من خلال ما حمّله الله للإنسان من وجوب الاعتناء بأمر ولده ،في حسن أدبه وحمايته من النار التي وقودها الناس والحجارة ؛وذلك بالتربية الصالحة التي تركز له إيمانه وأخلاقه ،وتسير به على الصراط المستقيم .
لقد قالوا ذلك ،وقالوا غير ذلك ،وأفاضوا الحديث في انعكاس تلك المشاكل على الحياة الاجتماعية العامة ،لأن طبيعة العلاقات العائلية تفرض الامتداد إلى كل العلاقات الآخرى المرتبطة بالعائلة من الأقربين أو الأبعدين .وتحدثوا عن الجانب النفسي للمرأة ،في ما تعيشه من الشعور بالقهر والاضطهاد تحت تأثير الخلل العاطفي في العلاقة الزوجية بسبب التعدد ؛مما يرهق إنسانية المرأة ويحوّلها إلى إنسان مقهور .وكان للمدنيّة والحضارة الجانب الكبير من حديثهم حول الموضوع ،في ما اعتبروه انحرافاً عن قيم الحضارة والمدنية ،التي تلتقي بالمحافظة على حسّ الإنسانية في حركة التشريع في الحياة .
القرآن وتعدد الزوجات ..إشكالات وردود
ولكننا لا نجد في ذلك كله مصدر خلل في تقييم التشريع الإسلامي في تعدد الزوجات ،لأننا نحاولفي تقييمنا لأيّ حكمٍ شرعيٍّأن ندرس حساب المصالح والمفاسد والمضار والمنافع ؛فإذا غلب جانب المصلحة والمنفعة على جانب المفسدة والمضرّة ،كان المفروض فيه أن يكون في خط الإيجاب ؛وإذا غلب جانب المفسدة والمضرّة على جانب المصلحة والمنفعة ،كان اللازم أن يكون في خط السلب ،لأن الأحكامحسب اعتقادناتابعة للمصالح والمفاسد الغالبة في مواردها ،فلا يكفي في سلبية حكم ما أن يحتوي نقطة ضعف ،بل لا بد أن تكون بدرجة غالبة على نقطة القوة فيه ،وذلك ما نستوحيه من قوله تعالى:{يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [ البقرة:219] وفي ضوء ذلك ،نجد أن وجود السلبيات في موارد الأحكام لا يفرض إلغاء الحكم ،بل لا بد من إثبات ارتفاع نسبتها على نسبة الإيجابيات .
وعلى هذا الأساس ،يمكننا أن نضع أيدينا على طبيعة هذه المسألة ،لنرى كيف تلتقي الإيجابيات بالسلبيات في عملية مقارنة ،لننتهي إلى النتيجة المطلوبة .فقد ذكر الباحثون عدة حالات تفرض المصلحة في تشريع التعدد .
الأسباب الموجبة لتشريع تعدد الزوجات
أولاً: لأن الوحدة قد تكون مدعاة للانحراف .
منها: إن التعدد قد يكون حاجة طبيعيةفي بعض الحالاتعند بعض الأشخاص ،مما يجعل الوحدة مدعاة للانحراف ؛كما قد نواجهه عند كثير من الأشخاص الذين يمارسون العلاقات غير الشرعية إلى جانب العلاقات الشرعية بفعل الحاجة الملحّة تارة ،أو بفعل وضع طارىء طوراً ،بل ربما نستطيع تقرير أن التعدد يمثل وضعاً تاريخياً عاماً في نطاق العلاقات الشرعية وغير الشرعية ،الأمر الذي يعطينا الفكرة التي تعتبره حالةً إنسانيةً عامة ،سواء في ذلك المجتمعات البدائية التي لا زالت تمارسه حتى الان ،أو المجتمعات المتحضرة التي تنكر التعدد قانوناً ،ولكنها تمارسه بطريقة واقعية .
أما حكاية تشجيع الشهوانية في حركة الغريزة لدى الرجل ،والاقتراب به من الحيوانية بعيداً عن الجانب الروحي ،فهي حكايةٌ تستلهم المثالية ولا تنطلق من النظرة الواقعية للأشياء ؛فإن الإسلام لم يطلب من الإنسان خنق غريزته واعتبارها شراً وعيباً وانحطاطاً ،بل اعتبرها حاجةً طبيعيةً ،تماماً كحاجته إلى الأكل والشرب ،وعمل على تنظيمها في حدودها الطبيعية ،فلم يرد للإنسان الوقوع في الحرج ليتعقّد أو ينحرف ،بل أراد له الاستقامة في وضعٍ طبيعيٍّ من خلال الممارسة المتوازنة ؛وترك لهبعد ذلكحرية الاختيار بين أن يأخذ بالرخصة فيلبي نداء غريزته بشكل منظّم ،وبين أن يقتصر على الحد الأدنى مع قدرته على الحد الأقصى بالوسائل الشرعية ؛فإن هناك فرقاً بين أن تمارس الضغط على غرائزك من قاعدة الإلزام ،وبين أن تمارسها من قاعدة الرخصة ،بهدف تجنّب مشاعر الحرج والضيق النفسي .
أمّا حكاية تحويل المرأة إلى مجرد أداةٍ لمتعة الرجال ،فهي حكاية لا تثبت أمام النقد ،لأن الجنس حاجةٌ ذاتيةٌ لكل منهما ،في حالة التعدد أو الوحدة .فإذا اعتبرنا هذه الفكرة في هذا الاتجاه ،كان لا بد لنا من إلغاء أصل الزواج .
وخلاصة الفكرة ،أن الإسلام دينٌ واقعيٌ يعمل على حل المشكلة وفق منطق الواقع وليس وفق منطق المثاليات ،ليرتكز الحل للمشكلة على سدِّ الذرائع على الإنسان في مواجهة الانحراف .
ثانياً: الأخلاق الزوجية قاعدة مواجهة أي مشكل عائلي .
أما موضوع تأثير هذا التشريع على الطمأنينة والاستقرار والمودة والرحمة في البيت الزوجي ،فذلك أمر لا نجد فيه كبير مشكلة ،لأن أية مشكلة طارئة في أيّ موضوع لا بد من بحثها من خلال وضع بديل وما قد يثيره من مشكلةٍ أخرى ،لتكون المقارنة هي السبيل لترجيح أحد الموضوعين .وهذا ما نواجهه في هذا المجال ؛فإن التعددكما قلناينشأ غالباً من حاجةٍ ذاتيةٍ ،فإذا أهملناه ،فإن البديل أحد أمرين ؛الاقتصار على الوحدة مع الحالة النفسية المعقّدة إزاء ذلك ،أو التعدد في العلاقات غير الشرعية ،وفي كلتا الحالتين نلتقي بالقلق والتعقيد وعدم الاستقرار في داخل النفس وفي حركة العلاقة الزوجية كنتيجةٍ لردود الفعل المتنوعة على ذلك ،لأنهما ينطلقان من قاعدةٍ غير واقعيةٍ وغير مستقرة .بينما يكون التعدد على أساسٍ شرعيٍّبمشاكلهضماناً لضبط الحاجة في نطاقها الواقعي ،وتحديد المشكلة في مجال محدود ،ومحاولة حلّها على أساس الأخلاقيات الإسلامية التي تخفف الكثير من السلبيات من جهة ،والاستمرار في التعامل مع الأمر الواقع الذي يعتاد الإنسان معه التعايش مع المشكلة من جهة أخرى .
وربما نستطيع أن نعالج المسألة من وجه آخر ،فإن أخلاقية الزوجين هي الأساس في مواجهة مشاكل الحياة الزوجية حتى في حالة الوحدة ،فقد تتعقد الحياة وترتبك بينهما مع الأخلاق السلبية في نطاق العلاقة الواحدة ،وقد تستقيم وتستقر وتتضامن مع الأخلاق الإيجابية في نطاق التعدد .فإن الوحدة والتعدد يعتبران من الحالات الخارجية للعلاقة مما يجعل من موضوع معالجتهما قضيةً منفتحةً على أكثر من حلّ .
ثالثاً: ارتباك الوضع العائلي الاقتصادي ليس قاعدة عامة
أما ارتباك الواقع الاقتصادي في نطاق التعدد ،فهو أمر لا يحصل مع كل الظروف والأشخاص ؛فقد يعيش بعض الناس حالةً من اليسر تنسجم مع مسؤوليات التعدد ،وقد يندفع بعضٌ آخر إلى تنمية موارده الاقتصادية بطريقة واقعية لا حرج فيها من خلال ذلك ؛وربما يتحرك التعدد في إنقاذ العائلة من الارتباك الاقتصادي الذي تُحدثه المصارف غير المحدودة التي تبذل في العلاقات غير الشرعية التي تكون البديل عن التعدد الشرعي .فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإسلام يدفع الإنسان إلى الاكتفاء بالعلاقة الواحدة في حالة العسر التي تجعل الإنفاق على أكثر من زوجة أمراً حرجاً ،وتمنعه من العدل في النفقة ،فإننا نصل إلى النتيجة الحاسمة التي تضع القضية في إطارها الطبيعي الذي يعيش معه الإنسان في حالة اليسر لا في حالة العسر .
رابعاً: ليست كثرة النسل قيمة سلبية دائماً
أما موضوع كثرة النسل وتأثيره على الواقع الاقتصادي للعائلة وللأمّة ،فإنه حديثٌ يلتقي بأكثر من جانبٍ مع حركة الواقع ،فقد تحتاج الأمة في بعض ظروفها إلى الكثرة ،وقد تفرض عليها ظروفها القلّة ،وقد يأتي ظرف آخر ليفرض حالةً من التوازن بين الأمرين ،فليست الكثرة قيمة سلبيةً دائماً وليست القلة قيمةً إيجابيةً دائماً ؛بل هي ،ككل القيم التي تستمد عناصرها من خارج الذات ،خاضعةٌ للظروف الموضوعية المحيطة بالساحة ؛وهذا ما نواجهه في واقعنا المعاصر الذي نجد فيه بعض الدولحتى المتحضّرةتمنح الامتيازات المادية للعائلة الكبيرة ،انطلاقاً من حاجتها إلى النمو العددي للأمة ،مع وفرة مواردها الاقتصادية ،بينما نجد بعض الدول الأخرى ،الغارقة في مشاكل اقتصاديةٍ كبيرة ،تمارس نوعاً من الحرب على تكثير النسل لتحفظ اقتصادها من الانهيار .
وهناك نقطتان لا بد من إثارتهما في هذا الجانب من الحديث:
الأولى: إن التعدد لا يلتقي أبداً مع كثرة النسل ،فقد تستوي الكثرة مع الوحدة في حالات فقدان الضوابط لتنظيم النسل ؛فإذا لاحظنا وجود الوسائل الشرعية المتنوعة لتنظيم الأسرة في هذا المجال ،أمكننا السيطرة على الموضوع في حالتي الوحدة والتعدد وإلغاء المشكلة من الأساس .
الثانية: إن هناك في عقيدة المؤمن ،جانباً غيبياً يلتقي فيه بالله الذي يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ،فإن الله ينزل المؤونة على قدر المعونة ،فلا تخضع المسألة للحسابات المادية فحسب ،بل هناك أكثر من جانب غيبيّ يحرك الواقع إلى أكثر من حلّ في نطاق رحمة الله .
خامساً: النتائج التربوية تتبع الظروف الذاتية والموضوعية
أما موضوع التربية وتركيزها في حالات القلة بخلاف حالة الكثرة ،فإنه يختلف في نتائجه الإيجابية والسلبية ،تبعاً لاختلاف الظروف المحيطة بالشخص وبالواقع ،فقد نجد هناك انحرافاً تربوياً في حالة الولد الواحد يقابله استقامةٌ ٌفي التربية في حالة كثرة الأولاد ،لأن الإمكانات الذاتية تبعاً لما يملكه الإنسان من جهد أو مال أو جاه أو ظرف عام ،قد تتيح له التركيزٍ في التربية بما لا يتاح له ذلك في حالات أخرى ؛مما يجعل المسألة تابعة للأوضاع الخارجية المحيطة بالإنسان بحسب ظروف الواقع .
التعدّد حل لكثير من المشاكل
وقد يثير القائلون بالتعدد مشاكل واقعية كثيرة أمام مبدأ الوحدة في الزواج منها: الدعوة القائلة بأن الإحصائيات تثبت بأن عدد النساء يفوق عدد الرجال طبيعياً ،مما يجعل قسماً من النساء لا يملك فرص الزواج في حالات الوحدة .
ومنها: الحروب التي تفني الرجال بأعداد كبيرة أكثر بكثير مما تفنيه من النساء ،لأن الرجال هم الفئة المقاتلة في أغلب الظروف ،بينما تعمل النساءحتى في حالات الحربفي ظروف أكثر أمناً وأقل خطورة ؛الأمر الذي يجعل الحرب مصدراً كبيراً من مصادر المشكلة لمبدأ الوحدة ،وقد قيل إن بعض الأشخاص في مجلس النواب الألماني طالب بتشريع التعدد في الزواج ،لمواجهة الحالة المفجعة التي أثارتها الحرب العالمية الثانية في قلة عدد الرجال بالنسبة إلى النساء .
ومنها: حالة العقم التي تكون لدى الزوجة في الوقت الذي يعيش فيه الإنسان الشعور بالحاجة إلى الأبوّة ،ولا يريد الانفصال عن زوجته لوجود الانسجام بينهما ؛ولا شك أن التعدد هو الحل الطبيعي لمثل هذه الحالة .
وهناك أكثر من جانب من الجوانب الواقعية التي تخلق المشاكل أمام مبدأ الوحدة ،وتجعل من التعدد حلاًّ طبيعياً أقرب إلى الطبيعة الإنسانية الخاضعة في ذاتها إلى نوازع وحاجاتٍ جسديةٍ وروحيّةٍ لا بد للإنسان من تلبيتها ،فيما إذا أراد الانسجام مع حالة التوازن النفسي التي تفرضها الحاجة إلى الاستقرار .
لماذا التعدّد للرجل دون المرأة ؟
قد تثار هذه القضية من خلال سؤال يفرض نفسه هو ،لماذا أباح الإسلام للرجل أن يعدّد في زوجاته ،ولم يُبح للمرأة أن تعدّد في الأزواج ؟
ونجيب عنه في نقطتين:
النقطة الأولى: إن نظام الأسرة الأبوي ،القائم على أساس شخصية الأب كوجهٍ أصيل للأسرة ،هو نظام أساسي في الإسلام ،وربما كان أساسياً في الواقع الإنساني كله ،وإذا كان التاريخ قد عرف في بعض مراحله نظام الأسرة الأموميإن صح التعبيرأي النظام الذي تحكمه الأم ويكون الأب تابعاً في القيام على شؤون الأسرة ،فإن ذلك يعتبر حالةً شاذةً لا عامةً .وقد تبنى الإسلام هذا النظام الأبوي ،فاعتبر الأب قواماً على الأسرة وأساساً للانتماء ومسؤولاً عن الأمور الحياتية ،وليس معنى ذلك إلغاء دور الأم أو نسبها ،بل اعتباره ثانوياً من هذه الجهات .وفي ضوء ذلك لا يمكن الإقرار بتعدُّد الأزواج ،لأنه يخلق لنا مشكلة انتماء الأولاد فتضيع الأنساب .
وقد جاء في الميزان عن محمد بن سنان أن الإمام الرضا( ع ) كتب إليهأي للمأمونفي ما كتب من جواب مسائله: «علة تزويج الرجل أربع نسوة وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد ،لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه ،والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو ،إذ هم مشتركون في نكاحها ،وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف » .
أما الجواب عن السؤال التالي ،وهو لماذا يحافظ الإسلام على النظام الأبوي للأسرة ؟فقد نتحدث عنه فيما يأتي من حديث ،وكنا قد ألمحنا إليه عند الحديث عن بعض جوانب التفسير في سورة البقرة ؛فإن للإسلام مبرراته الإنسانية والاجتماعية المرتكزة على أساس مصلحة الوجود الإنساني في الكون .
النقطة الثانية: إن التشريع لا بد من أن ينشأ عن حاجة ملزمة في الحياة .وقد تحدثنا ،في ما قدمناه من حديث ،عن الأسس التي ارتكز عليها تشريع تعدد الزوجات من خلال الواقع ومن خلال نداء الطبيعة ،حتى أننا قررنا الفكرة التي تقول إن تاريخ الإنسان هو تاريخ التعدد في العلاقات الجنسية من طرف الرجل ،سواء في ذلك العلاقات الشرعية وغير الشرعية ،مما يوحي بأن الوحدة في ذلك لا تعتبر حلاً للمشكلة ؛فلا بد من تجاوز هذا العلاج إلى غيره .
أمّا تعدد الأزواج للمرأة فهو حالةٌ شاذّة تاريخياً ،حتى لدى القبائل البدائية التي وقف عندها التاريخ ،فلا حاجة إلى أن يقف عندها التشريع ليخطط لها القوانين والأحكام .فإذا اقتربنا من مبررات التعدد ،فإننا نجد من بينها أوضاع الحروب التي تفني الرجال بنسبةٍ أكبر مما تفني النساء ،مما يجعل من كثرة النساء وقلة عدد الرجال حالةً طبيعيةً تفرض التعدد في علاقات الرجل بالمرأة دون العكس ،وذلك لحلِّ مشكلة المرأة الجنسية والروحية الباحثة عن العلاقة الطبيعية بالرجل .
وهناك نقطةٌ أخرى جديرةٌ بالبحث والتأمّل ،وهي أن غريزة الرجل تدعو إلى التعدد أكثر من غريزة المرأة ،لأن عنصر الإثارة لدى الرجل أشد وأسرع من عنصر الإثارة لدى المرأة ؛فان تأثر المرأة بالعوامل التي تثير الغريزة يحتاج إلى إعداد نفسيٍّ وجسديٍّ أكثر مما يحتاجه الرجل ؛حتى أن الرجل يبلغ حاجته ،في ما يسمى بذروة الشهوة في العلاقة الجنسية ،قبل أن تبلغها المرأة بوقت قصير ،مما يؤدي إلى مشاكل نفسية وجسدية للمرأة عندما لا تحس بالاكتفاء في العلاقة بالمستوى الذي يحس به الرجل .وقد نستفيد من ذلك أن عنصر الإثارة لدى المرأة ليس إيجابياً بالمستوى الموجود لدى الرجل .وربما نلمح في خطوات الواقع ،أن الرجل هو الذي يلاحق المرأة ،ويهيّىء لها أجواء الانحراف على أساس نداء الغريزة ،بينما نجد أن إغواء المرأة للرجل يخضع في كثير من الحالات لعوامل اقتصادية أو غير ذلك من العوامل الخارجية .
وقد عاشت بعض البلدان الأوروبية والأمريكية ما يشبه تعدد الأزواج والزوجات ،في ما يسمى بعملية الزواج الجماعي الذي يلتقي فيه عدة من النساء والرجال على حياة زوجية مشتركة ،ولكن الواقع أثبت فشل التجربة ،لأنها خلقت لهم أكثر من مشكلة ،ولم تستطع منحهم الشعور بالرضا والسعادة النفسية لا سيما بالنسبة إلى المرأة .
وقد نلاحظ أن المرأة تميل إلى العلاقات الموحدة أكثر من ميلها إلى العلاقات المتعددة ،ولهذا نجد ظاهرة الوفاء في العلاقات الجنسية لدى المرأة أكثر منها لدى الرجل ،لأنها تشعر بالاكتفاء بالعلاقة الواحدة في حالتها الطبيعية ،في ما يحققه ذلك من عوامل الإثارة لديها ،بينما لا نجد ذلك الشعور نفسه لدى الرجل .وعلى ضوء ذلك كله ،نقف أمام الحقيقة الواقعية التي تفرض الحاجة إلى التعدد لدى الرجل من ناحية الغريزة والأوضاع الإنسانية العامة ،مما يجعل من ذلك قضيةً في حجم الظاهرة التي يجب أن يواجهها التشريع بالحل العملي ؛ولا نجد ذلك لدى المرأة ،بل كل ما هناك وجود حالات طارئة سريعة لا تفرض الاهتمام الكبير .
انسجام التشريع وحاجات البشر الطبيعية
وهكذا نجد التشريع الإسلامي يواجه الواقع بحلوله للمشاكل المعقّدة من موقع الحاجة الطبيعية للإنسان ،لأنه لا يشرّع للملائكة بل يشرّع للبشر .وكان التعدد حلاً طبيعياً لمشكلة الرجل والمرأة معاً من الناحية الجنسية والاجتماعية .ولمّا كانت القضية تعيش في نطاق الرخصة لا في دائرة الإلزام ،كان من الممكن للإنسان أن يمارس حريته من خلال ظروفه ،ليصل بذلك إلى حدود التوازن في حياته ؛فقد يجد المصلحة في الوحدة ،وقد يجدها في التعدد ،وقد يجدها في عدم الزواج ،مما يجعل الإنسان يمارس واقعه على أساسٍ شرعي ،يبتعد به عن الأوضاع غير الشرعية في أيّ ظرفٍ من ظروفه ،ويدفعه إلى مواجهة الواقع بإيجابيات الشريعة ،بعيداً عن سلبيات الانحراف .
وقد يكون من الضروري مواجهة التقييم الفكري والعملي للعلاقات من منطق الأحكام الشرعية ،فنحترم الممارسات التي تقوم على هذا الأساس ،وتنسجم مع أخلاقيات الشريعة ،مهما كانت بعيدةً عن التقاليد الاجتماعية المستمدة من قواعد فكرية غير إسلامية ،كما نلاحظ في بعض ملامح الواقع الذي نعايشه في العصر الحاضر ،تأثّراً بالقيم المسيحية المثالية التي تؤكد على الرهبنة والبعد عن الغرائز كقيمةٍ روحيةٍ أساسيةٍ ،فتعتبر الإنسان الذي يخنق غريزته إنساناً قديساً ،بينما ترى في الإنسان الذي يستجيب لغرائزه بشكل طبيعي إنساناً لا يرقى إلى مستوى القيمة .وعلى هذا الأساس تعتبر موضوع التعدد في العلاقات الجنسية حالةً شهوانيةً لا تليق بالإنسان المؤمن الذي يريد أن يعيش القيم الروحية في حياته ،من خلال ما تمثله قيم الزهد والترفُّع عن الشهوات والتنكر للحياة المادية وما شابه ذلك من مفاهيم .
ولكن الإسلام لا يستجيب لهذا المنطق ،ولا يتبنّى هذه المفاهيم ،فقد اعتبر الغرائز التي أودعها الله في كيان الإنسان أموراً طبيعيةً لا بد للإنسان من ممارستها بطريقة متوازنة ؛فلكل غريزة جوعٌ وظمأٌ ،وللإنسان إشباع جوعه ،وإطفاء حرارة ظمئه ،تماماً كما هي الحاجات الطبيعية الجسدية .فلا يكون العمل على أساس ذلك ضد القيمة ،ولا تكون الشهوانية المعتدلة شيئاً سيئاً في حياته ،ولا يعتبرها الإسلام شيئاً منافياً للروحانية ،لأن روحانية الإسلام لا تتمثل في ابتعاد الإنسان عن حاجات الجسد ،بل في عدم الارتفاع بها إلى مستوى القيمة الأساسية في الحياة ،وفي الوقوف أمامها بإرادةٍ حرةٍ قادرةٍ أن تقول لا ،وأن تقول نعم ،من دون الخضوع للضغوط الدافعة إلى الانحراف ؛فلا تستعبدها الحاجات ،إذا وقفت الحياة لتخيّر الإنسان بين السير مع مبادئه وبين الخضوع لضغط الشهوات .وهذا هو المعنى الحقيقي للزهد ،في ما يمثله من مشاعر نفسية يملك فيها الإنسان التحرر من الارتباط بالمادة الذي يشبه حالة الاستعباد ؛وتلك هي الروحانية الداخلية التي تجعلك تواجه الحياة من موقع القدرة على التحكم في حركتها من حولك .فليس الجوع في ذاته قيمةً روحيةً ،وليس البعد عن الشهوات في ذاته معنى روحياً ، إلا في ما يمثله من حركة الإرادة الواعية في رفض المنكر أو التدرّب على مواجهته ،من أجل أن يقرّبك ذلك من الله ،من خلال ما يمثله من ممارستك لحريتك بين يديه .
وعلى هذا الأساس ،نجد أن تعدد الزوجات ليس ضد القيمة ،كما أن الوحدة فيها ليست هي القيمة ،بل هي حاجةٌ طبيعيةٌ يمكن للإنسان أن يعيشها على أساس ظروفه الذاتية ،في ما يحيط به من الظروف الداخلية والخارجية ؛فله أن يعدد من موقع الإرادة ،وله أن يوحّد من ذلك الموقع ،ليكون بذلك قريباً من الله في كلتا الحالتين ،لأنه يتحرك على هدى التشريع الذي يرى في الأخذ بالرخصة التزاماً إسلامياً ،كما يرى في الالتزام بالإلزام التزاماً بالخط الإلهي السليم .
ارتكاز العلاقات الإنسانية على قيمة العدل
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً} لا بد في كل علاقة إنسانية من الارتكاز على أساس العدل ،سواء في ذلك العلاقات الزوجية وغيرها ،لأن الله يريد للحياة أن تتحرك في خط العدل ؛ولذلك كان التعدد مشروطاً بالعدل في مواجهة الإنسان لمسؤولياته والتزاماته تجاه زوجاته ،فليس له إهمالهنّ في ما يجب لهن من حقوق عليه .وقد يكون من الأقرب للتقوى ،دراسة الإنسان إمكاناته قبل الدخول في هذه التجربة ؛فإذا رأى في نفسه القدرة على الوفاء بالتزاماته الشرعية ،أقدم على ذلك ؛أما إذا لم تتضح له المسألة ،وخاف أن لا يقدر على العدل من خلال الظروف الخاصة والعامة ،فالأفضل له الاكتفاء بواحدة ،لأن ذلك أقرب إلى التقوى وإلى الانسجام مع إمكاناته المادية ،فلا يثقل على نفسه بأكثر مما يستطيع .
هل العدل شرط في صحة الزواج المتعدّد ؟
وقد يُثار سؤال ،هل العدلأو إمكاناتهشرط في صحة العلاقة الزوجية المتعددة ،فلا يصح العقد على أكثر من واحدة إذا خاف الإنسان من نفسه عدم العدل ؟أم أنه ليس شرطاً في الصحة ،ولكنه شرطٌ في الانسجام مع خط التكليف الشرعي ،من دون مساس بالجانب القانوني للعقد ؟
ونجيب عن ذلك أن المسألة ربما تبدو ،في ظاهر الأمر ،كما لو كان العدل شرطاً قانونياً لصحة العقد ونفوذه ،لأن الله لم يرخص في التعدد في حالة الخوف من عدم العدل ؛ولكن العلماء أقروا بصحة العقد في جميع الحالات ،ولم يحكموا بفساد العقد في حالة اكتشاف عدم القدرة على النفقة التي يتوقف عليها العدل ،وربما كان الوجه في ذلك أن الفقرة الأخيرة في الآية{ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} تفيد بأن الاشتراط جارٍ مجرى الإرشاد والنصيحة وليس جارياً مجرى الإلزام الشرعي القانوني ،لأن الإقدام على التعدد مع خوف عدم العدل يعرّض الإنسان لمشاكل شرعية في حركة العلاقة ،ويدخله في أوضاع اقتصادية ثقيلة قلقة ؛والله العالم بحقائق أحكامه .
كيف نوازن بين هذه الآية وبين الآية التي تنفي إمكانية العدل ؟
وقد يثار أمامنا سؤال آخر: إن مقارنة هذه الآية بالآية الكريمة{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [ النساء:129] ،تؤدي إلى النتيجة التالية ،وهي أن اللهسبحانهقد حرّم التعدد لأنه ربطه بشرط العدل الذي أفادت الآية الثانية عدم استطاعة الإنسان الوقوف عند خطه في ذلك ،حتى في حالات الحرص التام على القيام به ،مما يوحي بأن التشريع مقيَّد بقيدٍ لا يمكن أن يتحقق ،فيكون بمثابة الأسلوب اللبق في إلغاء الرخصة بطريقة غير مباشرة .
ونجيب عن ذلك:
أولاً: بما ألمحنا إليه آنفاً ،من أن الشرط واردٌ في مقام الاحتياط للوضع الشرعي والاقتصادي للإنسان ،وليس وارداً مورد الإلزام القانوني .
وثانياً: إن العدل ،الذي أخذ شرطاً في هذه الآية يراد به العدل في النفقة ،بينما يراد من العدل في الآية الثانية العدل في المحبة والميل القلبي ،وذلك من خلال قوله تعالى:{فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ...} فإنه يمثل النهي عن الانحراف مع الحالة العاطفية ،إلى المستوى الذي يصل إلى حدّ الهجران بحيث تصبح المرأة معلّقة ،لا مزوّجة ولا مطلّقة ؛بل إن هذا التأكيد على طبيعة المدى ،الذي يجب أن تعيش معه العلاقة ،يمثل إقراراً بشرعية العلاقة .وقد ورد هذا التفريق في تفسير كلمة العدل في الايتين ،في بعض كلمات أئمة أهل البيت( ع ) .
جاء في تفسير العياشي نقلاً عن الميزان عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله( ع ) في قول الله{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [ النساء:129] ،قال: في المودة .
وفي الكافي بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم ،فقال له: أليس الله حكيماً ؟قال: بلى ،وهو أحكم الحاكمين قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ:{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً} أليس هذا فرض ؟قال: بلى ،قال: فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ:{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} [ النساء:129] ،أي حكيم يتكلم بهذا ؟فلم يكن عنده جواب .
فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله( ع ) ،فقال: يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة ؟قال: نعم ،جعلت فداك لأمر أهمّني ،إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء ،قال: وما هي ؟قال: فأخبره بالقصة .
فقال له أبو عبد الله( ع ): أما قوله عزّ وجلّ:{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدةً} يعني في النفقة ،وأما قوله{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [ النساء:129] ،يعني في المودة .
قال: فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره ،قال: والله ما هذا من عندك .
أقول: وروي أيضاً نظير الحديث عن القمي ،أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول عن المسألة بعينها ،فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله( ع ) عنها ،فأجابه بمثل الجواب ،فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال: هذا حملته من الحجاز .
وفي المجمع في قوله تعالى:{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي تذرون التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج ولا أيِّم .عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم ،وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله( ع ) .
ملك اليمين
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لما كانت الحقوق الشرعية الإلزامية للزوجة تختلف عن حقوق ملك اليمين ،كان التعدد في العلاقات الزوجية موجباً للخوف من الانحراف عن خط العدل ؛ولذلك فإن بإمكان الإنسان تلبيةً حاجاته الغريزية مع التعدد في ملك اليمين ،ليبتعد عن الانحراف عن القيام بواجباته الشرعية ،لأن هذه العلاقة أكثر بساطةً من علاقة الزواج .
أما الحديث عن شرعية ملك اليمين ،ودلالته على تشريع الإسلام للرقّ ،فإن هذا كلام سوف نفيض فيهإن شاء اللهفي ما نستقبله من تفسير الآيات التي تتحدث عن الرقّ للرجال والنساء ؛وسوف نجد أن الإسلام قد جاء إلى واقع يعيش فيه نظام الرق ،كوجهٍ من وجوه الحياة الاقتصادية والاجتماعية ،فلم يجد من الحكمة لسلامة التشريع أن يبادر إلى إلغائه دفعةً واحدةً ؛بل عمل على تجفيف منابع الرق ،ولم يبق إلا رق الحرب ،لأنّه يمثّل قانون المعاملة بالمثل ،مع انفتاحٍ على إمكانات أخرى تجعل لولي الأمر أن يملك الاختيار بين الاسترقاق والفداء ،في نطاق المصلحة الإسلامية العليا .وعمل بعد ذلك على فتح باب العتق ،باعتباره من أفضل الأعمال التي تقرب الإنسان إلى الله ،وبالإيحاء بأنه يمثّل الكفارة عن الذنب في صغائر الأمور وكبائرها ؛وبالتأكيد على بعض الأوضاع القانونية في علاقة الإنسان بالرقيق ،وذلك في مثل الاستيلاد للأمة التي تتحرر بذلك من نصيب ولدها ،وفي مثل المكاتبة على أساس مبلغٍ معينٍ يدفعه العبد ،وغير ذلك من الموارد التي نجد الكثير منها في حركة الحرية في التشريع .
وقد نستطيع وضع أيدينا على واقعية التشريع ،في وصوله إلى هدفه الأساسي من إلغاء الرق في حياة الناس ،وذلك من خلال ملاحظة الواقع الذي عاشه المسلمون ،ولا يزالون يعيشونه في العصور المتأخرة والأخيرة .فليست لدينا مشكلة رقٍّ تستدعي القيام بثورة تحريرٍ للعبيد ،لأن التشريع الذي أطلق الممارسات الشرعية للتحرير ،في نطاق العمل الفردي للإنسان ،كان ثورةً هادئةً ٌتتحرك في اتجاه الوصول إلى أهدافها بكل هدوءٍ وتركيزٍ وإيمانٍ ،من دون أية حاجة إلى القيام بالاستعراضات القانونية والاجتماعية ،كما يفعل الآخرون .
إن الإسلام يتحرك في مجال تغيير الواقع ،من القاعدة الداخلية للإنسان التي تربط حياته بهدف الحصول على رضا الله والرغبة العميقة في القرب منه ،وتوجهه نحو تحقيق هذا الهدف في نطاق الخطوات التشريعية الواقعية التي تدخل في مفردات حياته اليومية الخاصة ،لتنطلق الفكرة من خلال الممارسة الشرعية في خطةٍ حكيمةٍ هادفة .
وربما كان الأساس في ذلك ،هو أن قيمة أيّ هدفٍ تشريعيٍ ،تتمثل بالروحية التي تعيش في داخل الذات ،من أجل انطلاق التغيير من موقع القناعة في عملية مساهمةٍ ذاتيةٍ في الوصول إلى الهدف ،بعيداً عن أيّ ضغطٍ خارجي ،لأن الضغط وحده قد يحقق حركة التشريع في الواقع بقوة ،ولكنه لا يبني العلاقات الروحية والاجتماعية في إطار الحياة الداخلية التي يعيشها الناس .وقد نستكشف ذلك من ملاحظة الروحية التي تعيشها بعض الشعوب المتمدنة كأوروبا وأميركا ضد السود ،انطلاقاً من الشعور بسيادة اللون الأبيض على اللون الأسود ،المنطلقة من تاريخ استعباد البيض للسود ،وفقدان القناعة بالواقع القانوني الذي شرّع تحرير العبيد .أمّا الإسلام ،فقد أطلق النظرة الإنسانية في المفهوم الإسلامي في قضية الرقّ ،فلم يفرّق بين الحر والعبد في الموقع الإنساني ،بل كان التفريق في حركة القانون ؛فإذا فقد القانون ساحته بالانتقال إلى مجال الحرية ،كانت العلاقات الإنسانية بين الناس طبيعيةً ،لأنها لم تتحرك من عمق المفهوم الداخلي ،بل تحركت من سطح الطبيعة القانونية للعلاقة .
{ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} ربما كان المراد من العول هو الانحراف عن خط الحق ،لأن الإنسان الذي يقف عند حدود قدراته الذاتية ،يستطيع أن يستقيم على طريق الله ؛أما الذي يتجاوز قدراته ،فإنه سوف يسقط في التجربة الصعبة ويسير في النهاية على أساس خط الانحراف .ولعل هذه الفقرة تعطينا الفكرة التي ألمحنا إليها ،وهي أن الاشتراط وارد على أساس الاحتياط ،للانسجام مع أوامر الله ونواهيه ،وليس جارياً مجرى الإلزام القانوني ؛والله العالم .