كيف نتصرف مع الأيتام في أموالهم ؟
وهذه نقلة جديدة في أجواء العلاقات الإنسانية ،في ما يمارسه الإنسان من المسؤولية تجاه الأيتام الذين يمثلون الفئة الضعيفة التي تعيشفي ذاتهامعلّقةً في الفراغ ،لأنها فقدت القوة التي تمنحها التماسك والثبات ؛وذلك في ما يمثله الاباء للأبناء الصغار من معنى الرعاية والحماية والقوة ،في ما يغدقونه عليهم من حنان وعاطفة ،وما يحيطونهم به من عنايةٍ واهتمام ،فيصونونهمبذلكمن كل عوامل الضعف والقهر المحيطة بهم .
وفي ضوء ذلك ،كان الإسلام حاسماً في هذه المسألة التي لا تحتمل المساومة والتهاون ،لأنها تتعلّق بقضية الإنسان الضعيف في الأرض ،الذي أراد الله منحه من عوامل القوة ،فجعل كفالته مسؤولية المجتمع ،وحمّل أفراده كل التبعات التي تترتب على ذلك ،وحذّرهم من الانسياق مع نوازع الطمع التي قد يثيرها الشعور بالأمن من العقوبة ،على أساس فقدان القوة الذاتية التي يستطيع اليتيم أن يدافع بها عن نفسه ،وانعدام القوة البديلة التي تتولى التعويض عن ذلك ،حتى لا يمتنعوا عن إعطاء الأيتام أموالهم الموجودة لديهم ،أو يستبدلوا بالجيّد الرديء ،وبالطيب الخبيث للحصول على بعض المنافع والامتيازات ،أو إضافة أموال الأيتام إلى أموالهم ببعض الوسائل غير الشرعية .واعتبر هذه الأعمال إثماً كبيراً يستحق الإنسان عليه العقاب الكبير لدى الله .
{وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ} الذين عاشوا في حضانتكم وولايتكم ،فكانت أموالهم في عهدتكم لأجل المحافظة عليها وتنميتها لتسلموها إليهم إذا بلغوا سن الرشد كما يسلّم كل أمين أمانته من دون تغيير أو تبديل{وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ} والرديء{بِالطَّيِّبِ} من مال اليتيم لتجعلوه في حصّته تحت تأثير الادعاء بأن ذلك هو الذي يضمن مصلحته ،بلحاظ أن بقاءه قد يؤدي إلى ضياعه ،لأنه لا فرق بينه وبين البديل .وهو كناية عن عدم التصرف فيه تصرفاً يوجب نقصانه والإساءة إلى ماليته ،لأن الولي أمينٌ على مال اليتيم ،فلا بد له من مراعاة المصلحة في تصرفه عند استبداله بغيره ،فلا يأخذ الخسيس والرديء عوضاً عنه ،{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ} ،أي لا تضمّوها إلى أموالكم ليكون المال كله لكم ،لأنها أمانة الله عندكم ،مما يجعل من ذلك خيانةً للأمانة ،من دون فرقٍ في ذلك بين حاجتكم إليها واستغنائكم عنها{إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} ،أي إثماً عظيماً ،وربما كان في كلمة «الحوب » التي هي على حقيقتها ،كما قال الراغب: «الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم » ،ما يوحي بأن هذا السلوك الخياني ربما كان منطلقاً من حاجة الولي القائم على مال اليتيم إلى الأخذ منه ،لأن ذلك هو الغالب في أمثال هذه الموارد ،وربما كانت الكلمة في استعمالاتها العرفية مجردةً عن خصوصية هذا المعنى لتأخذ معنى الإثم بشكل مطلق ،والله العالم .
ولعلّ هذا التأكيد القرآني على عدم الإضرار بمال اليتيم ،سواء أكان ذلك بتبديله بالأدون أم بمصادرته واغتصابه ،ينطلق من إيجاد حالةٍ من الخوف الداخلي لدى الإنسان من الوقوع في الإثم الكبير الذي ينتهي به إلى عذاب الله من أجل إيجاد ضمانةٍ روحيةٍ تحمي اليتيم من ضياع ماله لدى الذين يتولون أمره شرعياً أو عرفياً ،أو الذين يملكون القوة الغاشمة التي تتيح لهم إمكانية التسلط على الضعفاء في أنفسهم وأموالهم .فإن التربية الإسلامية تعمل على تركيز العقدة الذاتية في نفوس الناس المانعة لهم من الذهاب بعيداً في الاتجاه المنحرف ،بالإضافة إلى السلطة التي يمنحها الشرع للسلطات الشرعية في معاقبة هؤلاء ومنعهم من ظلم الضعفاء في الدنيا على أساس القانون الإسلامي .
إن هذا التوجيه الإلهي هو أحد مظاهر التقوى العملية التي دعت إليها الآية الأولى ،وذلك من خلال ما يفرضه من الوقوف عند حدود الله ،وما يدعو إليه من الالتزام بأوامر الله ونواهيه ،وما يثيره في النفس من الشعور بالخوف من الله ومن عقابه والرغبة في رضاه وفي ثوابه وهذا ما يمكن أن يحقّق المناعة الطبيعية ضد الانحراف ،لأن مثل هذه الأمور ،التي يستطيع الكثيرون اللعب على ظروفها ،قد تفسح المجال لكثيرٍ من هؤلاء الناس القيام بعملية التفافٍ عليها ،في ما يريدونه من خيانةٍ ،وما يعملون له من غايات وأهداف ذاتية ،لا سيما في الحالات التي لا يملك فيها الأيتام أيّة مستندات تثبت حقوقهم ،أو أية معرفةٍ للاخرين في ذلك ،كما قد يحدث غالباً .ولهذا كان التأكيد شديداً وذلك من خلال قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} .