{ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} اوجب سبحانه وتعالى الرحمة العامة في الآية السابقة واخصها ما كان في الأسرة الواحدة ، وقد ابتدأ في هذا بأحق الناس بالرحمة العاطفة ، والمودة الواصلة ، وهم الذين نزلوا إلى هذا الوجود من غير حام غير الله تعالى يحميهم ، ولا قلب يحنو عليهم حنو الوالد الشفيق ، وأولئك هم اليتامى ، واليتم معناه( الانفراد ) واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه ، وقد حث الله تعالى على إكرام اليتامى في آيات كثيرة ، وأحاديث نبوية مستفيضة قد تضافرت كلها على وجوب إكرامه ومنع قهره وإذلاله ، ذلك ان اليتيم يحتاج إلى إصلاح وعطف ومحبة تعوضه عما فقد من رعاية ، وإن العواطف الإنسانية تنمو في الطفل وهو صغير بالمجاوبة النفسية بينه وبين من يحيطون به . فإذا انقطعت تلك العاطفة في الصغر نفر ونظر إلى الجماعة كلها نظرة العدو إلى عدوه ، فيكون من هؤلاء الذين فقدوا عطف الأبوة ولم يكن ما يعوضها – الشذاذ وقطاع الطرق ، وبعبارة عامة من ليس عندهم ضمائر ، ولا نفوس لوامة .
وقوله تعالى:{ وآتوا اليتامى أموالهم} فيه أمر واضح بالرعاية من ناحية المال ، فلا يمنعون حقهم المالي ، والمر بالإيتاء امر لعموم الجماعة الإسلامية بأن تتضافر في تمكين اليتيم من ان يصل إليه ماله ، فلا يأكله الورثة ويضيعون حقه ، وعلى ذلك يكون معنى الإيتاء تخصيص نصيب لليتامى كاملا غير منقوص ،فتحفظ لهم حصتهم في أبيهم او في مورثهم ، ويحفظ لهم نصيبهم في كل غلة لموالهم ، ويكون وصف اليتامى على حقيقته ؛ لأن ذلك وهم صغار ، وفسر بعض العلماء الإيتاء بالإعطاء لهم إذا بلغوا رشدهم ، ويكون التعبير عنهم باليتامى باعتبار ما كان .
وقوله تعالى:{ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} معناه:لا تجعلوا لهم خبيث المال بدل الطيب ، ويكون الطيب معناه الجيد ، والخبيث معناه الردئ فعلى هذا يكون المعنى الجملي:لا تجعلوا ردئ المال لهم بدل الجيد ، فإذا كانت التركة شاء فلا تجعلوا لهم الهزيلة ، ولكم السمينة ، وإذا كانت فلا تجعلوا لهم الزيوف ، وتجعلوا لنفسكم الجيد ، ومعنى التبدل ، جعل شيء بدل شيء أي يجعلون الردئ بدل الجيد ، والباء في مادة التبادل يجوز ان تدخل على المتروك ، ويجوز ان تدخل على المأخوذ ، وهي هنا على المتروك ، لأنه يترك عنهم الجيد ، ويؤخذ لهم الردئ وفسر بعضهم الخبيث بالحرام ، والطيب بالحلال ، ويكون المعنى:لا تجعلوا الحرام عليكم بدلا عن الحلال ، أي لا تأخذوا الحرام من مالهم وتتركوا الحلال الطيب من أموالكم ، وبهذا فسر الزمخشري .
{ ولا تأكلوا أموالهم إلى واموالكم} الكلام السابق كان في تخصيص أنصبة لهم غير منقوصة ، وتخير هذه النصبة من الطيب دون الخبيث ، وهنا الكلام في خلط أموالهم بأموال الأوصياء ، ومعنى النص الكريم:لا تضموا أموالهم على أموالكم آكلين لها . والآية صريحة في النهي عن خلط مال القاصر بمال الموصى عليه قاصدا آكله ؛ لأن الأكل في ذاته حرام ، وهي أيضا تتضمن النهي عن خلط مال القاصر ، ولو لم يقصد أكله ؛ لأنه قد يؤدي إلى ضياعه وعدم تمييزه ، إذ يخشى ان يموت من غير ان يعرف مال اليتيم من ماله ، فيؤدي الأمر إلى أكله ، وإن لم يكن مقصودا ، ولذا يقول الفقهاء:إذا مات الموصي على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له .
{ وإنه كان جوبا كبيرا}الضمير يعود إلى النهي عن أكل مال اليتيم بأي طريق كان الأكل ، ومعنى"حوبا كبيرا":إثما كبيرا ، فالحوب معناه الإثم ، وفلان يتحوب أي يتأثم ، والحوباء النفس المرتكبة للإثم ، وإن الإثم في هذا كان كبيرا ؛ لأنه اعتداء على ضعيف ، والاعتداء على الضعيف اكبر الإثم ، ولأنه خيانة للأمانة ، ولأنه تضييع لنفس بشرية وهي نفس اليتيم ؛ لأنه إذا كان يؤكل ماله فمم يأكل ؟ ولأن ذلك ينشئ اليتيم على النفرة من المجتمع ، وفي ذلك شر مستطير ،{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا9}[ النساء] .