( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالكم انه كان حوبا كبيرا2 ) .
( وآتوا اليتامى أموالهم ) شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا .وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام .إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب .واليتيم من مات أبوه .من اليتم ،وهو الانفراد .ومنه الدرة اليتيمة .والقياس الاشتقاقي يقتضي وقوعه على الصغار والكبار .وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم .كما روى أبو داود{[1528]} باسناد حسن عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد احتلام ".وفي الآية وجوه:الأول –أن يراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازا .باعتبار ما كان ،أوثر لقرب العهد بالصغر .والاشارة إلى / وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ .حتى كأن اسم اليتيم باق بعد ،غير زائل .الثاني –أن يراد بهم الكبار حقيقة ،واردة على أصل اللغة .الثالث- أن يراد بهم الصغار .و ب ( الايتاء ) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة .لا دفعها اليهم .وفيه بعد .الرابع- أن يراد بهم ما ذكر .وب ( إيتائهم ) الأموال ،أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة .فالتجوز في الايتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى الا إذاكانت كذلك .قال الناصر في ( الانتصاف ):هذا الوجه قوي بقوله بعد آيات:( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ){[1529]} ،دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم .والثانية في الحض على الايتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد .ويقويه أيضا قوله عقيب الأولى:( ولا تتبدلوا ) الخ فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره .واما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحدا وهو الأمر بالايتاء حقيقة .ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة ،والثانية كالمبينة لشرط الايتاء:من البلوغ وايناس الرشد .والله أعلم .( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم ،وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه .أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة ( انه ) أي الأكل ( كان حوبا ) أي ذنبا / عظيما .وقرئ بفتح الحاء .وقوله تعالى:( كبيرا ) مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور .كأنه قيل من كبار الذنوب .
تنبيه:
خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا لقوله تعالى:( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) .كذا قاله البيضاوي وتابعه أبو السعود .وعندي انه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغني ،بقوله:( إلى أموالكم ) .فلا يشمل مساقها الفقير .وسنوضح ذلك .
لطيفة:
قال الزمخشري:فان قلت قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم .فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ قلت:لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها ،كان القبح أبلغ والذم أحق .ولأنهم كانوا يفعلون كذلك .فنعى عليهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم .انتهى .
قال الناصر في ( الانتصاف ) أهل البيان يقولون:المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الأعلى .كقوله تعالى:( فلا تقل لهما أف ){[1530]} .وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غني عنه .وأدناها أن يأكله وهو فقير اليه .فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغني عنه من طريق الأولى .وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية .فنقول:أبلغ الكلام ما تعددت وجوه افادته .ولا شك ان النهي عن الأدنى ،وان أفاد النهي عن الأعلى ،الا أن للنهي عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة ،لا تؤخذ من النهي عن الأدنى .وذلك ان المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد .ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل .فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه .حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا .ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم .ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر ،إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب ،كاعانتها عليه في الصورة الأولى .ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل .مع أن تناول مال اليتيم ،على أي وجه كان ،منهي عنه .كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا ،أو غير ذلك .الا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل ان العرب كانت تتذمم بالاكثار من الأكل .وتعد البطنة من البهيمية .وتعيب على من اتخذها ديدنه .ولا كذلك سائر الملاذ .فانهم ربما يتفاخرون بالاكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا .فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به .حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ،أكلا أو غيره .ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى:( لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ){[1531]} .فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون .ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر .وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى .وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب .ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة:( واذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم ){[1532]} الآية ،كيف خص صورة حضورهم وان كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم .وذلك / أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال ،فلو أمر بإسعاف الأرقاب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ،ولم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم .بخلاف ما إذا حضروا .فان النفس يرق طبعها وتنفر من ان تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ،ولا يسعف ولا يساعد .فاذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع .ثم تدربت بذلك على اسعاف ذي الرحم مطلقا حضر أو غاب .فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلفى الا في الكتاب العزيز .ولا يعثر عليه الا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق .نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط .فخذ هذا القانون عمدة .وهو:أن النهي ،ان خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى .وان خص الأعلى ،فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح .ومثل هذا ،النظر في جانب الأمر .والله الموفق .انتهى .