سبب النّزول:
روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ،فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه ،فخاصمه إِلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزلت: ( وأتوا اليتامى أموالهم ...) فلما سمع الغطفاني ذلك إِرتدع وقال: أعوذ بالله من الحوب الكبير{[716]} .
التّفسير:
لا ...للخيانة في أموال اليتامى:
كثيراً ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال صغار أباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث ،فتلك حالة كثيراً ما تقع ،فإِن المجتمعات المريضة التي تعاني من صراعات وحروب ونزاعات داخلية مستمرة مثل المجتمع الجاهلي العربي يقع فيها هذا الأمر بنسبة أكبر ،ولذلك يكثر فيها عدد الأيتام ،وهو ما يجب أن تهتمّ به الحكومة الإِسلامية ،بل ويهتمّ به كل المسلمين ،فيتكفّلوا أمر اليتامى وشؤونهم .
وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى .
1( وآتوا اليتامى أموالهم ) أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم ،ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والنّاظر والوكيل لا على نحو تصرّف المالك .
2( ولا تتبدلوا الخبيث بالطّيب ) أي لا تأخذوا أموالهم الطّيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة وهذا التعليمفي الحقيقةيهدف إِلى المنع ممّا قد يرتكبه بعض القيمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والرديء مكانه ،بحجّة أن هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم ،أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل ،أو لأن بقاء مال اليتيم يؤول إِلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير .
3( ولا تأكلوا أموالهم إِلى أموالكم ) يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملك الجميع ،أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالرديء من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإِضرار باليتامى وضياع حقوقهم .ولفظة «إِلى » في العبارة بمعنى ( مع ) في الحقيقة .
ماذا يعني الحوب ؟:
ثمّ إنّه سبحانه ،لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله: ( إِنّه كان حُوباً كبيراً ) .
يقول الرّاغب في مفرداته: «الحوبة حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإِثم » وحيث أن العدوان على أموال اليتامى ينشأفي الأغلبمن الحاجة ،أو بحجّة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإِثم في هذه الآية لفظة «الحوب » للإِشارة إِلى هذه الحقيقة .
إِنّ ملاحظة الآيات القرآنية المختلفةفي هذا المجالتكشف عن أن الإِسلام يولي هذا الموضوع أهمية كبرى ،ويهدد الخائنين في أموال اليتامى بالعقوبات الشديدة ،ويدعو القيمين على اليتامى بكلمات صريحة وجازمة إِلى مراقبة أموالهم والمحافظة عليها بمراقبة شديدة ،ومحافظة بالغة ،وسيأتي تفصيل كلّ هذا في نفس هذه السورة في الآيات القادمة ،وفي ذيل الآيات ( 152 ) من سورة الأنعام ،و ( 34 ) من سورة الإِسراء .
إنّ اللهجة القوية التي اتسمت بها هذه الآيات قد تركت من التأثير البالغ في نفوس المسلمين بحيث خافوا أن يخالطوا اليتامى وأن يشتركوا معهم في الطعام ،ولهذا كانوا يهيئون طعاماً خاصّاً لأنفسهم ولأولادهم ،وطعاماً مستقلا لليتامى ولا يخالطون طعام اليتامى بطعامهم خشية الإِجحاف بهم ،وقد شقّ هذا على الجميعاليتامى والأولياءولهذا أمرهم سبحانه في الآية ( 220 ) من سورة البقرة قائلا ( وأن تخالطوهم فإخوانكم ) أي إِن كان في مخالطتهم لطعام اليتيم بطعامهم خير ومصلحة لليتيم فلا بأس{[717]} .
سبب النّزول:
لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص ،فقد كان المتعارف في العهد الجاهلي قبل الإِسلام أن يتكفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات ،ثمّ يتزوجون بهنّ ،ثمّ يمتلكون أموالهنّ ،وربما ينكحوهنّ بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهنّ ،بل وربّما يتركوهنّ لأدنى سبب أو كراهية بكل سهولة ،وبالتالي لم يكونوا يعطونهنّ ما يليق بهنّكزوجاتبل وحتى كبقية النساء العادياتمن الاحترام والمكانة ،فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إِذا أرادوا الزواج بهنّ أن يلاحظوا جانب العدل معهن ،وإِلاّ فليختاروا الأزواج من غيرهنّ{[718]} .