قال الشافعي رحمه الله:أن لا يكثر عيالكم . فدل على أن قلة العيال أدنى .
قيل:قد قال الشافعي رحمه الله ذلك ، وخالفه جمهور المفسرين من السلف والخلف ، وقالوا:معنى الآية:ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا . فإنه يقال:عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار . ومنه:عول الفرائض . لأن سهامها زادت . ويقال:عال يعيل عيلة إذا احتاج . قال تعالى:{ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [ التوبة:28] . وقال الشاعر:
وما يدري الفقير:متى غناه *** وما يدري الغني:متى يعيل ؟
أي متى يحتاج ويفتقر . وأما كثرة العيال فليس من هذا ، ولا من هذا ، ولكنه من أفعل ، يقال:«أعال الرجل يعيل » ، إذا كثر عياله . مثل «ألبن » و«أتمر »:إذا صار ذا لبن وتمر هذا قول أهل اللغة .
قال الواحدي في بسيطه . ومعنى تعولوا:تميلوا وتجوروا ، عن جميع أهل التفسير واللغة وروي ذلك مرفوعا:روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن لا تعولوا » قال «أن لا تجوروا » وروي «أن لا تميلوا » . قال:وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن مالك وعكرمة والفراء والزجاج وابن قتيبة وابن الأنباري .
قلت:ويدل على تعين هذا المعنى من الآية ، وإن كان ما ذكره الشافعي رحمه الله لغة حكاها الفراء عن الكسائي قال:ومن الصحابة من يقول:«عال يعول » إذا كثر عياله . قال الكسائي:وهي لغة فصيحة سمعتها من العرب ، لكن يتعين الأول لوجوه:
أحدها:أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه ، ولا يعرف:عال يعول إذا كثر عياله . إلا في حكاية الكسائي ، وسائر أهل اللغة على خلافه .
الثاني:أن هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان من الغرائب فانه يصلح للترجيح .
الثالث:أنه مروي عن عائشة وابن عباس صلى الله عليه وسلم ، ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين وقد قال الحاكم أبو عبد الله:تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع .
الرابع:أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير .
الخامس:أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون من الظلم والجور فيه إلى غيره . فإنه قال في أولها:{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [ النساء:3] فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى ، وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ ، وأباح لهم منن أربعاً . ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن . فقال:{ فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور . وهذا صريح في المقصود .
السادس:أنه لا يلتئم قوله{ فإن خفتم ألا تعدلوا} في الأربع فانكحوا واحدة أو تسروا ما شئتم بملك اليمين . فان ذلك أقرب إلى أن تكثر عيالكم ، بل هذا أجدى من الأول . فتأمله .
السابع:أنه من الممتنع أن يقال لهم:إن خفتم أن ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر ، فإنه أدنى أن لا تكثر عيالكم .
الثامن:أن قوله:{ ذلك أدنى ألا تعولوا} تعليل لكل واحد من الحكمين المتقدمين ، وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ ، ومن نكاح الأربع إلى نكاح الواحدة ، أو ملك اليمين ، ولا يليق تعليل ذلك بقلة العيال .
التاسع:أنه سبحانه قال:{ فإن خفتم ألا تعدلوا} ولم يقل:إن خفتم أنا تفتقروا أو تحتاجوا . ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك .
العاشر:أنه سبحانه إذا ذكر حكما منهيا عنه وعلل النهي بعلة ، أو أباح شيئا وعلق إباحته بعلة . فلا بد أن تكون العلة مضادة لضد الحكم المعلل . وقد علل سبحانه إباحة نكاح غير اليتامى والاقتصار على الواحدة أو ما ملك اليمين بأنه أقرب إلى عدم الجور . ومعلوم أن كثرة العيال لا تضاد عدم الحكم المعلل . فلا يحسن التعليل به والله أعلم .