{كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ} ورتبت ترتيباً جيّداً ،بحيث لا تختلط آية بآية ،ولا مفهومٌ بمفهوم ،بل وجدت الفواصل البيانية والفكرية بين الآيات والمفاهيم ،بشكلٍ واضحٍ لا مجال فيه للالتباس ،ما يجعل الوضوح أساساً للأسلوب القرآني في كل مفرداته ليتمكن قارئو القرآن ،والمستمعون له ،والمتأملون فيه ،من الفهم السليم ،وليحصلوا على وضوح الرؤية ،لأن الدعوةفي الإسلامتقوم على وعي مبادىء الدعوة ومفاهيمها المرتكز على الفهم الجيّد لتلك المفاهيم والمبادىء ،ليكون إيمان المسلم إيماناً مثقفاً منفتحاً لا إيماناً جاهلاً أعمى ..
نزول القرآن بلغة العرب
{قُرْآناً عَرَبِيّاً} لا مجال فيه لادّعاء عدم فهمه من قبل أيّ فردٍ من المجتمع الذي نزلت فيه الرسالة ،ليكون القاعدة الأولى لحركتها نحو العالم ،بحجة اختلاف لغة القرآن عن لغته .فهو قرآن عربي في لغته وأسلوبه وطريقته في عرض المفاهيم العقيدية والشرعية والكونية ،ما يجعل الجميع قادرين على فهمه ،لأن حكمة الله اقتضت أن ينزل الكتاب بلغة الرسول الذي يحمله ،نظراً لما تقتضيه طبيعة الواقع الذي يفرض أن تستوعب الأمّة التي يتحرك الرسول في داخلها وينطلق منها ،الرسالة التي يحمل ،وبالتالي فإن الرسالة لا بد من أن تكون باللغة التي تفهمها الأمة لتستطيع استيعابها وقبولها أولاً ،والدعوة إليها في أوساط الأمم الأخرى ،بكل وعي وقوّة ثانياً .
وهكذا رأينا أن العرب الذي عاشوا وضوح المعاني الرسالية في بساطة ،استطاعوا أن يحملوا الإسلام إلى الأمم الأخرى التي انتشرت العربية فيها بسبب القرآن الذي بعثت فيهم الحاجة إلى فهمه حافزاً على فهم اللغة التي نزل بها ،وامتدوا في ذلك حتى تفوّقوا على كثير من العرب ،في فهم أسرار البلاغة ،وعمق الإعجاز ،وتأصيل قواعد اللغة العربية ..
وقد ذكرنا في ما سبق أن نزول القرآن بلغة العرب لا يعني امتيازاً قومياً لهم ،بل يعني قابليتهم لحمل الرسالة ،بسبب ما حملوه من خصائص تؤهلهم لذلك ،والحكمة الإِلهية التي اقتضت أن تنزل الرسالة في أرضهم وفي مجتمعهم ،وأن يكون الرسول منهم ،أرادت للرسالة أن تكون عالمية من موقع خاص يمثل قاعدة أولى للدعوة ..
وهكذا أنزل الله القرآن مفصّلاً في آياته ،عربيّاً في لغته .{لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يملكون المعرفة التي تتيح لهم فهمه بالمستوى الذي يمكن أن يتحول إلى إيمانٍ بمضمونه .