{بَشِيراً وَنَذِيراً} فقد أنزله الله ليقود الناس إلى معرفة نهايات المواقف ونتائج الأعمال والأقوال والعلاقات ،ليفهموا أن مصيرهم في المستقبل الذي يتحرك في الدنيا ويتجاوزها إلى الآخرة ،ليبشر العاملين في اتجاه الحق والخير بالنعيم الخالد ،وينذر العاملين في اتجاه الباطل والشر بالعذاب الدائم ،ليحدد الناس مواقعهم ومواقفهم على أساس ذلك .
إعراض الأكثرية وإيمان الأقلية
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} لأنهم لا يريدون الاستماع لفقدانهم إرادة الاقتناع ،لأن عقولهم تجمّدت عند الرواسب الموروثة وحياتهم تحجرت عند التقاليد ،فلا يملكون سبيلاً لحركة الفكر ،ولا يجدون طريقةً لتغيير المواقف ،ولهذا كانوا يواجهون دعوات التغيير ،بجمود الفكر والحركة .
ولكن المسألة الإيجابية في حركة الدعوة أنها لا تفتقر بشكلٍ كليٍّ إلى جمهور في بداياتها الحركية ،بل تحصل على قلّة منه تملك حرية العقل وعمق التفكير ،وتعيش قلق الحاجة إلى المعرفة وإلى اكتشاف آفاقٍ جديدة ،وتحاول النفاذ إلى ما خلف السطح من أسرار الحياة في لهفة بحثاً عن أسرارها ،وهذه الأقلية هي التي تلتزم الحق ،وتستمع إلى الرسول ،وتتبعه من موقع القناعة ،وهي دائماً الفئة المسحوقة التي لم تستسلم للضعف الذي تعيش فيه ،بل بقيت تبحث عن انطلاقة تساعدها على الانفتاح والتمرّد ،وتقودها إلى الثورة في سبيل التغيير .. وهي التي تمثل فئة مرذولة من مجتمع الاستكبار ،فهي تضم العبيد والفقراء والضعفاء لأنهم من طبقةٍ منحطّةٍ لا تملك المال الوفير ،ولا النسب الكبير ،ولا الشأن الخطير .هؤلاء هم جماعة الأنبياء الذين كان المستكبرون يعيّرونهم بهم في مثال قول بعضهم للنبي:{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [ هود:27] .
مسؤولية العاملين الرساليين
وفي ضوء ذلك ،ينبغي للرساليين في كل زمان ومكان ،أن لا يتعقَّدوا من إعراض الأكثرية عنهم ،ولا يشعروا بالإحباط بسبب ذلك ،بل عليهم أن يروا في ذاك الإعراض أن النفوس لا تطيق التغيير الذي يخرجها عمّا اعتادته في حياتها ،كما أن الطبقة المسيطرة مالياً وسياسياً وعسكرياً ،لا تجد في الرسالة ما يحقق مصلحتها ،ويحفظ امتيازاتها ،بل تجد فيها ضد ذلك ،ولذلك فإنها تقف منها موقفاً معارضاً ،لتقييد حريتها ،وإسقاط مواقعها ،وإرباك شؤونها ..وهي تعملفي الوقت نفسهعلى حشد الجماهير المستضعفة ضدّها ،باستغلال حاجة تلك الجماهير إليها ،والضغط من مواقع القوة عليها ،كي تقف ضد قوى التغيير ،تحت تأثير شعاراتٍ خادعةٍ وكلماتٍ مضلّلةٍ ،ومشاعر قلقةٍ ،وانفعالاتٍ حادّة ..بحيث تقود هذه الجماهير ضد مصلحة نفسها على أكثر من صعيد ،غفلةً منها عن الحقيقة ..
إنّ على العاملين أن يفكروا بواقعيةٍ في تنمية حركة الرسالة في الواقع ،وأن يدرسوا الظروف الواقعية التي تساعدهم على تجاوز الحواجز التي يضعها المترفون والطغاة والكافرون أمام حركتهم الرسالية ،وأن يتابعوا السير بصبرٍ ووعيٍ وقوّةٍ ،لأن الجماهير الواعية التي هي صاحبة المصلحة في التغيير سوف تكتشف الحقيقة ،ولو بعد حين .